الأنتخابات الأمريكية دلالات وآفاق (2-4)

الأنتخابات الأمريكية دلالات وآفاق (2-4)
قصة الـ "لا" التي غيرت التاريخ الأمريكي من جذوره
الشيخ نمر باقر النمر (حفظه الله)
إن كلمة "لا" للواقع الظالم، و"لا" للواقع المظلم، و"لا" للواقع الفاسد؛ هي التي غيرت التاريخ بامتداده الزماني، والجغرافيا بامتدادها المكاني، وتُغير الحاضر، وتحرر الإنسان ومن معه من تكبيل الواقع، وتفك الأصر، وتحطم الأغلال، وتُكسر القيود؛ ومن ثم تفتح آفاق المستقبل الزاهر، وتشيد أركان صرحه، وتعبد عروج سمائه.
إن كلمة "لا" للقوانين المجحفة، "لا" للخنوع، "لا" للإستسلام، "لا" للعبودية، "لا" للظلم، "لا" للإحجاف، "لا" للأمر الواقع الفاسد؛ هي التي تعيد الحياة إلى مسيرتها الطبيعية، وبـ "لا" النفي والرفض تُسترد الحقوق المغتصبة، وتعاد الحريات المسلوبة، وبـ "لا" النفي والرفض ينعم الإنسان بالحياة الطيبة والكريمة، وبـ "لا" النفي والرفض يتمكن الإنسان أن يسعى ويعمل وينطلق ويتقدم، وبـ "لا" النفي والرفض يحقق تطلعاته وأهدافه.
إن كلمة "لا" هي مفتاح وبوابة وقاعدة كلمة الإسلام، والتوحيد الخالص، والحرية الإنسانية، فأولاً يبدأ الإنسان يزأر بكلمة النفي والرفض "لا إله"؛ لكي يُطَهِّر الإنسان عقله وروحه وكل كيانه من آلهة الهوى، وآلهة الطاغوت، وآلهة كل الأنظمة الطاغية، والقوانين الجائرة، والأعراف الجاهلية، والزعامات المزيفة، والآلهة الحجرية والبشرية، ثم بعد ذلك يغرد بكلمة الإثبات والقبول "إلا الله"؛ لكي يُشَكِّل بها عقله، ويَصْبَغ بها فكره، ويُكَوِّن بها شخصيته، ويختار بها أهدافه، ويحدد بها أسسه، ويميز بها وسائله، ويرسم بها خريطة حياته. ولا يوجد إثبات في الوجود كله، ولن يوجد إلا وقبله نفي.
إن "لا" النفي والرفض -وإن لم تُوصل بكلمة الإثبات والقبول- هي التي حررت البشرية من الظلم والإستبداد، والتسلط والطغيان، وهي التي أزالت الظَّلَمة من كراسي الحكم، وأسقطت الطغاة من عروش الملك، وأطاحت بالأصنام البشرية من بروج التعالي العاجيَّة بالغرور والإستكبار، وكشفت ضعف وهزالة وزيف الآلهة المزعومة والمصطنعة والمتفرعنة، والإحتلال الإستكباري العدواني، والحكومات الغاشمة والمستبدة، على الشعوب المستضعفة المقهورة.
إن "لا" النفي والرفض هي التي اقتلعت أسوء وأعتى تفرقة وتمييز وفصل عنصري في الألفية الماضية؛ الذي تجسد في الولايات المتحدة وتمركز بالخصوص في مناطق الجنوب.
إن "لا" النفي والرفض هي التي غيرت التاريخ الأمريكي من جذوره، وحولته من مجتمع يُفاضَل فيه الإنسان على أساس اللون والبشرة، ويقوم نظامُه وكيانه على عقيدة تسييد الأبيض واستعباد الأسود؛ إلى نظام قائم على أساس العدل والمساواة والحرية، وإن كان الوقع ليس كذلك؛ ولكنه أفضل من واقع عالمنا الإسلامي المثخن والمتخم بالظلم والجور والطغيان، والتمييز والتفرقة، والكبت والعبودية والإستبداد.
وما زالت هذه الـ "لا" تحدث التغيير في التفكير والواقع الأمريكي، وبهذه الـ "لا" تمكن باراك حسين أوباما الأسود الأفريقي الكيني الذي ينحدر من أب مسلم وقبيلة مسلمة أن يصل إلى قمة الهرم الأمريكي، وذروة البيت الأبيض، ومقام السيد الأول في التركيبة السياسية الأمريكية.
إن "لا" للفصل العنصري، ثم "لا" للتمييز العنصري، وهكذا "لا" للواقع العنصري هي العقيدة الحقَّة التي كانت تنطلق بين الفينة والأخرى من حناجر الأباة الزنوج والأحرار السود، وقدَّموا بها أرواحهم على أكفهم؛ لكي تصان كرامتهم وعزتهم، وتتحقق حريتهم واستقلالهم؛ ولكنهم جوبهوا بشراسة النظام العنصري؛ ملاحقة ومطاردةً، واحتجازاً واعتقالاً، وتعذيباً وتنكيلاً، وإبعاداً ونفياً، وقتلاً واغتيالاً، ولكنهم أبَوا إلا أن يصدعوا بـ "لا" حتى تراكمت الـ "لا" وكونت جبلاً من الـ "لا" لتنجب لآتٍ تزأر، وآمالاً تكبر، وأنفاساً تتحرر؛ وذلك عبر تاريخ متراكم من النضال والمقاومة للتفرقة والتمييز والفصل العنصري؛ قُدم فيه القرابين من خيرة الأباة والأحرار؛ إلى أن زأرت روزا لويس ماكولي بـ "لا" لن أخلي مقعدي، فكانت بداية اندلاع لسان الصباح ينطق يتبلج منه النور الساطع؛ ليعلن ساعة الشروق المضيء بالعدالة والحرية والمساواة؛ ويتسرح به قطع الليل المظلم بالطغيان والإستعباد والتمييز؛ وبـ "لا" النفي والرفض أشرقت شمس العدالة والحرية والمساواة لتذيب جبال الجليد المتحجر بالجور والطغيان، والإستعباد والإستبداد، والتفرقة والتمييز إلى أن أوصلت هذه اللآت باراك حسين أوباما إلى رئاسة أمريكا، ومن خلالها يحكم العالم؛ فكانت "لا" لن أخلي مقعدي؛ التي قالتها روزا هي الشرارة التي أضاءت سماء أمريكا بالعدالة والحرية والمساواة.
وأصبحت روزا لويس ماكولي صاحبة أشهر "لا" في التاريخ الأمريكي، وبمعرفة قصة الـ "لا" لن أخلي مقعدي -التي ساهمت في صنع وتشكيل التاريخ الأمريكي ومن ثم ما زالت تنسج حاضره وتحدد آفاق مستقبله- ستنجلي الكثير من حقائق الحاضر؛ لأن الكثير من الحاضر ما هو إلا نتاج تراكم الماضي، ولا يمكن فهم الحاضر بشكل صحيح ما لم نتعرف على الماضي؛ وبالخصوص معرفة القيادات التي ساهمت في صنع وتكوين الحاضر الأمريكي، وتشكيل عقليته في موضوع إلغاء نظام الفصل والتمييز العنصري.
قصة الـ "لا" التي غيرت أمريكا والعالم:
ولدت روزا لويس ماكولي ( Rosa Louise McCouley) في 4 فبراير 1913م من أصول إفريقية أمريكية، وعاشت في إحدى مناطق الجنوب التي كان التمييز والفصل العنصري فيها أشد من المناطق الأخرى في الولايات المتحدة، وفي ظروف تعج بالكثير من مظاهر التمييز والفصل العنصري، فقد كان المجتمعان: الأبيض والأسود منفصلين حتى في استخدام المراحيض، يحكمهما قوانين عنصرية تفضل المجتمع الأبيض على المجتمع الأسود في كل شيء، حتى في وسائل النقل العامة، فكان السود يعانون العديد من مظاهر الاضطهاد والاحتقار، خاصة فيما يلقونه من شركة خطوط حافلات المدينة التي اشتهرت بإهانة عملائها من السود الأفارقة، فقد كان على الأمريكيين الأفارقة التخلي عن مقاعدهم للبيض، بموجب قوانين (جيم كرو) العنصرية في أمريكا التي تفرض على السود إخلاء مقاعدهم والتنازل عنها للركاب البيض، وأن يجلسوا في المقاعد الخلفية المخصصة للسود الذين يشكلون أكثر من 80 % من مجموع الأشخاص الذين يستخدمون المواصلات العامة آنذاك، في حين لا يسمح لغير البيض بالمقاعد الأمامية فهي مخصصة للبيض فقط الذين يمثلون أقل من 20 % من الركاب، وكان يمكن للسود الجلوس في المقاعد الوسطى إلا إذا صعد شخص أبيض فإنه من حق السائق أن يأمر الركاب السود الزنوج الجالسين أن يتركوا مقاعدهم من أجل أن يجلس شخص أبيض.
وكان الأمر يعبر عن حضيض التفكير والإستهجان والسخرية من هؤلاء "النسانيس السوداء"! وكانت القوانين تنص على أن يدفع الركاب الأفارقة السود أجرة الحافلة (10 بنسات) من الباب الأمامي ثم يهبطون من السيارة، ويعاودون الركوب ويصعدون الحافلة من الباب الخلفي، فكان بعض السائقين يستغلون الفرصة، ويقودون سياراتهم ليتركوا الركاب السود في منتصف الطريق! أما وسائل النقل المدرسية فهي مخصصة للأمريكي الأبيض فقط وحُرِمَ منها الأمريكيِّون السود، وقد تعرض السود للاعتقال والتعذيب والقتل بسبب عصيان تعليمات سائقي الحافلات، واستمر الحال إلى أن جاء يوم الخميس أول ديسمبر 1955.
وعُرفت روزا لويس ماكولي بعد زواجها بـ روزا لويس باركس (Rosa Louise Parks) نسبة إلى زوجها ريموند باركس الذي شاركت معه في حملة لتسجيل الأصوات للمشاركة في انتخابات «الجمعية الوطنية لتقدم الشعوب الملونة»، وكانت روزا باركس ناشطة في فرع الجمعية وكان يتعين عليها إرسال تقارير إلى الجمعية بخصوص انتخابات المسؤولين فيها.
وكانت روزا باركس تطالب بالحقوق المدنية للأمريكان الأفارقة، فكانت من بين الذين يجمعون التبرعات لمقابلة أتعاب الدفاع القانوني عن فتاة سوداء عمرها 15 عاماً جرى اعتقالها بسبب رفضها القيام من مقعدها في الحافلة لراكب أبيض، وبدؤوا الاهتمام بقضية الفتاة، ولكن عندما علموا أن الفتاة كانت حاملاً توصلوا إلى أنها ليست مناسبة لتكون رمزا لقضيتهم، فوقع الإختيار من قبل «الجمعية الوطنية لتقدم الشعوب الملونة». على روزا لما لها من مؤهلات وصفات وسمعة حسنة تؤهلها لأن تكون رمزاً لقضيتهم، فلما حضرت روزا مؤتمرا للقيادات في الأول من ديسمبر 1955م، وهي في الثانية والأربعين من عمرها، أكسبها قوة ساعدتها في عملها من أجل الحرية، ليس للسود فقط ولكن من أجل كل الشعوب المقهورة، فأسرعت بعده بالعودة إلى بيتها وكان أهم ما يشغلها هو التحول إلى «أم لحركة الحقوق المدنية».
وفي يوم الخميس الأول من ديسمبر 1955م؛ أسهمت روزا باركس في صنع تاريخ الولايات المتحدة عندما كانت تجلس في الحافلة التي طلب سائقها من 4 من السود التخلي عن مقاعدهم في الجزء الأوسط من الحافلة بحيث يمكن لراكب أبيض الجلوس، وقد لبى 3 منهم الطلب، فتعمدت روزا ماكولي وذلك بإيعاز من «الجمعية الوطنية لتقدم الشعوب الملونة» أن لا تُخلي مقعدها عندما طالبها الرجل الأبيض بإخلائه له، وأصرت على موقفها، رافضة التخلي عن حقها في الجلوس على المقعد الذي اختارته.
وتقول روزا في سيرتها الذاتية: «عندما شاهدني الرجل الأبيض جالسة، سألني ما إذا كنت سأتخلى عن مقعدي؟
فقلت له: لا.
فقال الرجل: إذا لم تتركي المقعد سأطلب الشرطة للقبض عليك.
فقلت له: فلتفعل ذلك».
فكانت الـ "لا" التي زأرت بها روزا لرفض التخلي عن مقعدها، أشهر "لا" في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، عاصية بذلك أوامر سائق الحافلة، وأعلنت الاحتجاج، وتمردت على قوانين الفصل العنصري والمعروفة بقوانين (جيم كرو) العنصرية، فقام السائق باستدعاء رجال الشرطة الذين ألقوا القبض عليها بتهمة مخالفة القانون، وقاموا بضربها ورميها خارج الحافلة واعتقالها وتغريمها 14 دولاراً نتيجة موقفها الرافض، فكان اعتقالها إيذانا ببدء حقبة جديدة في حياة الأمريكان ذوي الأصول الإفريقية.
فبعد اعتقال روزا اجتمع محام مدافع عن حقوق السود، يدعى نيكسون، مع محامين ومبشرين بغرض التخطيط لشن حملة ضد قوانين «جيم كرو»، وتم نشر 35000 نسخة من منشور يطلب من السود مقاطعة الحافلات خلال يوم الاثنين الموافق 5 ديسمبر من ذلك العام وهو اليوم المحدد لمحاكمة روزا باركس.
وقد شارك في تنظيمه وقيادته القس مارتن لوثر كينج جونير؛ ووجه المنشور المواطنين السود بعدم ركوب الحافلات في ذلك اليوم سواء كان ذلك إلى العمل أو إلى المدينة أو المدرسة أو أي مكان آخر.
وفي يوم الأحد 4 ديسمبر نشر خبر الدعوة للمقاطعة في أكثر من منبر خاص بالسود، فضلا عن نشره في الصفحة الأولى بصحيفة خاصة بالسود، فكان النداء بالمقاطعة لشركة الحافلات؛ ولبى السود نداء قياداتهم؛ فانطلقت حركة مقاطعة الحافلات التي استمرت381 يوماً من الإضراب عن ركوب الحافلات، وأحدث الإضراب أثراً كبيراً على إيرادات الشركة، حيث كان الأفارقة يمثلون أكثر من 80 % من ركاب خطوطها، ومن ثم من دخلها السنوي.
ولإنجاح دعوتهم للمقاطعة اكتفى أصحاب سيارات الأجرة الخاصة بالسود -وهم من السود بالطبع- بأخذ أجرة الحافلة العامة (10 بنسات) فقط، إلا أن معظم السود في منطقة الحدث (حوالي 40 ألفاً) قطعوا مسافات طويلة مشياً على الأقدام حرصاً على إنجاح حملة المقاطعة، علما بأن بعضهم مشى لأكثر من عشرين ميلاً في ذلك اليوم.
وفي ندوة أقيمت في إحدى الكنائس وافق السود بالإجماع على الاستمرار في حملة المقاطعة إلى أن تستجيب السلطات لمطالبهم المتمثلة في معاملتهم بنوع من الاحترام، وتوظيف السائقين السود لقيادة الحافلات، وأن يكون شغل المقاعد في وسط الحافلة على أساس من يأتي أولاً.
وخلال فترة المقاطعة تعرض الكثير من السود للمضايقات والاعتقال لأسباب واهية وألقيت قنابل على كنائس ومنازل؛ لإنهاء المقاطعة التي تصور السيد الأبيض أن السود سيتعبون ويتراجعون تحت التهديد والعصا، وترجيف المرجفين الجبناء الذين انسلخوا عن كرامتهم.
إن رفض روزا التخلي عن مقعدها لرجل أبيض أثناء ركوبها إحدى الحافلات كان الشرارة التي أشعلت حملة ضخمة من مقاطعة السود للحافلات، وكان للحادث اثر كبير في تأجيج مشاعر السود ضد الظلم والتمييز العنصري. وبدأت حركة المطالبة بالحقوق المدنية التي اجتاحت الولايات المتحدة منذ ذلك الوقت، والتي شكلت بداية عملية إلغاء التمييز العنصري الذي كان سائداً في ذلك الوقت، لتكون إحدى أهم الأحداث في تاريخ الأمريكان الأفارقة.
ورفعت القضية إلى أعلى هيئة دستورية في الولايات المتحدة، واستمرت المحاكمة مدة 381 يوماً، وفي النهاية خرجت المحكمة بحكمها الذي نصر موقف روزا باركس، وتغير وجه حركة الكفاح ضد العنصرية على أساس اللون في الولايات المتحدة، وفي 13 نوفمبر 1956م حظرت المحكمة العليا الأميركية الفصل العنصري في حافلات الركاب، وصار من حق السود الجلوس في مكان واحد مع البيض وإعطاؤهم نفس الحقوق في جميع القوانين.
وفي عام 1957م فقدت السيدة باركس وظيفتها وتلقت تهديدات بالقتل، فانتقلت مع زوجها ريموند إلى ديترويت، حيث عملت كمساعدة في مكتب عضو ديمقراطي بالكونجرس.
وفي سيرتها الذاتية التي صدرت عام 1992م قالت السيدة باركس عن احتجاجها الشهير: "السبب الحقيقي وراء عدم وقوفي في الحافلة وتركي مقعدي هو أنني شعرت بأن لدى الحق أن أعامل كأي راكب آخر على متن الحافلة، فقد عانينا من تلك المعاملة غير العادلة لسنوات طويلة".
إذاً سئمت روزا حياة الذل والخضوع والإستسلام للواقع المجحف وتطلعت لحياة كريمة يُحكم فيها بالعدل والمساواة إنها كانت متعبة لأنها تشعر بالإهانة، ومضطرة للتكيف مع اجراءات مجحفة، بعضها على شكل قوانين والأخرى مجرد تقاليد، تجعل وضع السود كشعب أقل من البشر.
فبعيداً عن الخضوع للسلبية من اليأس والإحباط والقنوط، أرادت روزا العدالة والحرية والمساواة والعيش بروح إنسانية في مجتمع لا يعترف بإنسانيتها، ولكنها حققت ما تريد بل أكثر مما كانت تريد.
وهكذا كانت الاحتجاجات تلك بداية الشرارة التي أدت إلى إلغاء وإنهاء التمييز العنصري في الولايات المتحدة بين المواطنين على أساس اللون في وسائل النقل، وفي عام 1964م صدر قانون الحريات المدنية الذي حرم التمييز على أساس العرق في الولايات المتحدة، وقفزت إلى مرتبة عالية عندما وقَّعت الحكومة الأمريكية في عام 1994م على معاهدة الأمم المتحدة بمحاربة كافة أشكال التمييز والاضطهاد بسبب العرق أو اللون أو الموطن الأصلي، ووصلت اليوم إلى أعلى مراتبها وبلغت الذروة بانتخاب أوباما ليكون رئيساً لأمريكا في يناير 2009م، وودعت أمريكا التمييز والفصل العنصري إلى الأبد.
باركس تلهم حركة الحقوق المدنية:
في عام 1990م كانت روزا من ضمن المجموعة التي استقبلت نيلسون مانديلا -الزعيم الذي حرر السود في جنوب أفريقيا من سلطة البيض- بعد إطلاق سراحه مــن سجنه فـــي جزيرة روبين الذي دام ثمانية وعشرين عاماً، وقد قال لها مانديلا حين رأها: "قد ألهمتني أثناء وجودي في السجن طيلة هذه السنيين".
وقد غيرت باركس حياة السود في الولايات المتحدة إلى الأبد ويعتبر تحديها واحداً من أهم الخطوات التي قام بها مواطن أمريكي أسود من أجل الحصول على حقوق عادلة ومتساوية لما يتمتع به الأمريكيون البيض.
ويدين لها كل أسود يصل إلى موقع مرموق أو متميز في أمريكا، فكل أمريكي أسود يعلم قدر ومكانة روزا باركس ويدين لها بحريته وحقوقه في المجتمع الأمريكي؛ لأنها منحت بنضالها وموقفها الأبي الحق للعيش بعدل وحرية ومساواة للملايين من الأمريكيين الملونين، وكانت مثلاً في النضال والمقاومة من أجل الحقوق المدنية.
ولولا "لا" (لن أخلي مقعدي!!) التي زأرت بها روزا باركس منذ 50 سنة ما كان لكوندليزا رايس مستشارة الأمن القومي سابقاً ووزيرة الخارجية حالياً ولا لكولن باول وزير الخارجية الأمريكي السابق أن يحلما بشغل مناصب مثل وزير الخارجية أو مستشارة الأمن القومي في الولايات المتحدة، فضلاً عن باراك حسين أوباما الذي وصل إلى الرئاسة وهي أعلى منصب وقمة في الدولة الأمريكية.
وفي عام 1996م حصلت روزا باركس على الوسام الرئاسي للحرية وهو أعلى وسام مدني يمنح للأمريكيين، وفي 1999م حصلت على الوسام الذهبي للكونجرس وهو أعلى تكريم مدني في أمريكا، وتم وصفها حينذاك "برمز حي للحرية في الولايات المتحدة".
ولما توفيت روزا باركس في 24 أكتوبر 2005م، عن عمر يناهز 92 عاماً؛ وهي أم ورائدة حركة الحقوق المدنية بالولايات المتحدة الامريكية، أمر الرئيس الأمريكي جورج بوش بتنكيس الأعلام في الداخل والخارج من على جميع المرافق العامة كإشارة للاحترام.
وقد ترأس الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون مراسم العزاء لجنازتها وقال: "من خلال العمل البسيط الذي قامت به عندما رفضت التخلي عن مقعدها، فإن السيدة باركس بدأت طريقا استرشدنا به لنعرف معنى الحرية".
وقد قيل في مراسيم تشييع جنازتها الكثير من العبارات التي تعترف بفضل نضالها من أجل أمة تعترف بالحقوق المدنية لآلاف من الأمريكيين الملونين، فقال السيناتور الديمقراطي إدوارد كندي "خسرت الأمة الأمريكية امرأة شجاعة وبطلاً أميركياً حقيقياً، قبل نصف قرن نهضت روزا باركس مدافعة ليس فقط عن نفسها بل عن أجيال وراء أجيال من الأميركيين".
وقال القس جيسي جاكسون زعيم الحقوق المدنية الذي شارك في مراسم العزاء: "لقد استمرت في الجلوس من أجل صمودنا، لقد فتح سجنها الأبواب من أجل رحلتنا الطويلة إلى الحرية".
من المشاركين وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس التي قالت في القداس "بأمانة أقول لكم، بدون روزا باركس ماكنت سأقف بينكم اليوم كوزيرة للخارجية".
واعترافاً بمجهودها النضالي في الحقوق المدنية، أقر مجلس الشيوخ الأمريكي تشريعاً في 27 أكتوبر 2005م بتكريم روزا باركس والسماح بأن يستلقى جثمانها تحت قبة الروتاندا في مبنى الكونغرس، لإلقاء نظرة الوداع الأخير عليها.
ولم يحظى بهذا الإجراء سوى 30 شخصاً منذ عام 1852م، ولم يكن منهم امرأة واحدة، وقد رقد جثمانها بأحد مباني الكونجرس منذ وفاتها حتى دفنها وهو إجراء تكريمي لا يحظى به سوى الرؤساء والوجوه البارزة.
فكانت روزا باركس هي أول امرأة في تاريخ أمريكا تمنح هذا الشرف وتحتل رقم 31 من الأشخاص الذين تم تكريمهم بهذا الشكل، كما أنها أول أمريكية تكرم بدون أن تكون مسئولة في الحكومة، وهي ثاني شخص أفريقي أمريكي يتم تكريمه، بعد رجل شرطة كان يعمل في مبنى الكونغرس والذي قتل في المبنى عام 1998م.
ولولا "لا " الرفض التي زأرت بها روزا لما وصل باراك حسين أوباما إلى البيت الأبيض.
لنتعلم أن نزأر بـ "لا" النفي والرفض، "لا" للظلم، "لا" للطغيان، "لا" للفساد، "لا" للإستسلام، "لا" للخنوع، "لا" للإستبداد، "لا" للإحتلال، "لا" للذل، "لا" للعبودية، "لا" للصمت، "لا" للسكوت عن الحقوق، ولنعلم أبناءنا على الزأر بـ "لا" النفي والرفض، ولتبقى شعاراً دائماً يزأرون به، ليكونوا ليوث الوغى لاقتلاع واجتثاث كل قوانين التمييز والتمزيق الجائرة، وتجفيف منابع التفريق الجاهلية.
بـ "لا" النفي والرفض فقط تسترد الحقوق، وتعاد الحرية، وتشرق شمس العدالة؛ لتذيب جليد جبال الظلم والجور والطغيان، وتقذفها في الوادي السحيق إلى الأبد.
سماحة العلامة الحجة
الشيخ نمر باقر النمر (حفظه الله)
السبت 24-11-1429 هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق