
سورة النور.. بصائر وأحكام -3
عقوبة القذف
(وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)) سورة النور .
· معاني الكلمات
يَرْمُونَ: يقذفون؛ أي يتهمون بالفجور والزنا.
الْمُحْصَنَاتِ: العفيفات، والمراد بالإحصان هنا: إحصان
الفرج بالعفة.
الطهر والنقاء والعفاف البيئة التي تحتضن الأسرة السليمة، لذا
لا بد من تسييج هذه البيئة من التطاول والاعتداء عليها وإلا أصبحت محطاً لعبث العابثين،
وهذا قد يفضي إلى تفتت الأسرة أو إلى زرع بذور الحقد والبغضاء والكراهية بين أبناء
المجتمع, وربما أفضى بالمجني عليه إلى الانتقام بالقتل أو غيره حتى يسترد كرامته.
لذلك جاء هذا التشريع وبهذه الغلظة والشدة للحفاظ على كيان الأسرة
من خلال وقاية أعراض الناس من إلصاق التهم بهم وتشويه سمعتهم، والعقوبة الواردة في
هذا التشريع ترد الاعتبار للمجني وتعيد له كرامته.
· عقوبة رمي المحصنات
(وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ)
قد مر في الآيات السابقة الأحكام الصارمة بحق مرتكبي الزنا من
الرجال أو النساء، والنهي عن التعاطف مع مرتكبي الرذيلة، والدعوة لمشاهدة تنفيذ العقوبة
بحقهم، وهنا يمكن أن يستغل المفسدون فيطلقون الإشاعات والتهم الرخيصة لمحاولة إحداث
إرباكات واهتزازات في المنظومة الخلقية في المجتمع، وربما تسلل الشيطان إلى ذوي النفوس
الضعيفة فأعانوهم على ذلك جهلاً أو هزلاً.
لذا شدد القرآن الكريم على منع ذلك من خلال إنزال عقوبة مركبة
من عنصرين أحدها مادي يتمثل في الجلد، والآخر معنوي يتمثل في رفض شهادة القاذف. وفي
هذه الآية الكريمة جملة من المباحث نذكر منها:
1. المراد من الرمي في قوله تعالى
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ): القذف، والرمي وإن كان في الأصل
يقال في الأعيان كالسهم والحربة والحجر وما أشبه، إلا أنه في غيره (الأقوال) يقال كناية
عن الشتم والقذف.
وقد وردت لفظة (يَرْمُونَ) في ثلاث آيات من هذه السورة
(4، 6، 23) وكلها في سياق منع التعدي على حرمات الأسرة وكرامة الأشراف والطاهرين من
بني البشر.
والآية وإن لم تذكر الرمي بخصوص الزنا مما قد يشعر شمولها
الرمي بغيره كالسرقة وشرب الخمر وارتكاب الموبقات..، إلا أن السياق يدل على الاختصاص
به فتقدم ذكر الزنا فيما سبقها من الآيات وذكر المرمية بصفتها كـ"محصنة"
تدلل على أن الرمي بالزنا (1)، ولذلك قام
الإجماع على هذا المعنى (2).
ويظهر من الآية الكريمة اقتسام طرفي القضية واختصاص كل
جنس بواحد منها، فقوله تعالى (وَالَّذِينَ) توحي باختصاص طرف
القذف بالرجال، وقوله تعالى (الْمُحْصَنَاتِ) توحي باختصاص طرف
المقذوف بالنساء، إلا أن المعمول به عدم الفرق
بينهما. قال المحقق الأردبيلي: إن المذكر في "الذين" غالب كالتأنيث في "المحصنات"، فلو قذفت إمرأة أو قذف رجل محصن به يكون الحكم كذلك بالإجماع المنقول
في مجمع البيان وغيره (3).
ويمكن أن يقال: ربما أرادت الآية الكريمة أن تبين واقع
القوة الذي يعيشها الرجل مما قد توقعه في الاعتداء، وواقع الضعف الذي تعيشه المرأة
مما قد يوقعها فريسة للأقوياء، فتنتصف للضعيف من القوي، ولذالك جاء التركيز عليها دون
الرجال انتصافاً لها ولكرامتها التي قد تستباح من قبل الأقوياء.
وهل يثبت القذف بمطلق اللفظ أم بألفاظ خاصة مقصودة من القاذف؟
اتفقوا على أن الألفاظ الصريحة المفيدة للقذف في عرف قائلها
مع علمه بها من دون فرق بين لغة وأخرى، هي التي توجب حد القذف. قال الشيخ الطوسي: إذا
قال الرجل أو المرأة، كافرين كانا أو مسلمين، حرين أو عبدين، بعد أن يكونا بالغين،
لغيره من المسلمين البالغين الأحرار: يا زاني، أو يا لائط، أو يا منكوحا في دبره، أو
قد زنيت، أو لطت، أو نكحت، أو ما معناه معنى هذا الكلام، بأي لغة كانت، بعد أن يكون
عارفا بها وبموضوعها وبفائدة اللفظة، وجب عليه الحد ثمانون جلدة... وكذلك إذا قال لامرأة:
أنت زانية، أو قد زنيت، أو يا زانية، كان عليه أيضاً مثل ذلك، لا يختلف الحكم فيه (4).
2. الظاهر أن المراد بـ ﴿الْمُحْصَنَاتِ﴾ هنا مطلق العفيفات، كما في قوله
تعالى: ﴿وَمَرْيَمَ
ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ...﴾ سورة
التحريم؛ آية 12.
وفي اللغة: أصل الإحصان المنع، والمرأة تكون محصنة بالإسلام
والعفاف والحرية والتزويج (5).
وواضح أن ما ورد في اللغة إنما هو تتبع للاستعمال القرآني،
فقد استعمل القرآن الكريم هذا اللفظ في معان أربعة:
v
الأول: المتزوجات:-
﴿وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ
لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ
فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً
حَكِيماً﴾.
سورة النساء؛ آية 24.
v
الثاني: الحرائر:-
﴿وَمَن
لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن
مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ
بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا
أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ
مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ
لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
سورة النساء؛ آية 25 .
وقوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ
إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي
أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ
مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ سورة
المائدة؛ آية 5.
v
الثالث: المسلمات:-
قوله تعالى في الآية السابقة (آية 25 من سورة النساء): ﴿فَإِذَا
أُحْصِنَّ﴾.
قال الشيخ الطوسي: من قرأ بالضم قال: معناه تزوجن، ذكر
ذلك ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة. ومن فتح الهمزة قال: معناه أسلمن، روي
ذلك عن عمر، وابن مسعود، والشعبي، وإبراهيم، والسدي، وقال الحسن: يحصنها الزوج، ويحصنها
الإسلام، وهو الأولى (6).
v
الرابع: العفيفات
﴿وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ﴾. سورة
النور؛ آية 4.
وبملاحظة التعدد في الاستعمال فقد اشترط الفقهاء شروطاً
قالوا أن من استكملها وجب الحد بقذفه، ومن فقدها كلاً أو بعضاً فلا حد على قاذفه، وهذه
الشروط هي البلوغ والعقل والحرية والإسلام والعفة.
وينبغي التنبه إلى أن فقد هذه الشروط أو بعضاً منها لا
يبيح القذف وإنما تستعاض عقوبة الحد بعقوبة التعزير.
3. الآية الثاني من هذه السورة بينت حد الزنا إلا أنها
لم تبين كيفية ثبوت الزنا وهذه ﴿ثُمَّ
لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء﴾ هي المتكفلة بهذا
الأمر، ففي إيجاز رائع يجمع هذا المقطع من هذه الآية الطريق إلى ثبوت واحد من الحدين
(حد الزنا أو حد القذف) فمع اكتمال أربعة من الشهود العدول الذين رأوا واقع الجريمة
يثبت حد الزنا، ومن دون ذلك يثبت حد القذف.
وهنا نتسائل هل الشهادة لخصوص الرجال أم لهم وللنساء أيضاً؟
فرق الفقهاء بين البينة التي تثبت الجلد والأخرى التي تثبت
الرجم، فقالوا في الأولى: تثبت بالرجال وحدهم،
وبالنساء وحدهن على أن يتضاعف عدد الشاهدات، وباشتراكهما على أن يتضاعف عدد الشاهدات.
وفي الثانية لا تثبت إلا بشهادة الرجال فقط.
وبغض النظر عن جنس الشاهد رجلا كان أو امرأة لا بد أن تكون
شهادته عن حس ومشاهدة (7) لخصوص العملية الجنسية، فلو
لم تكن كذلك عوقبوا بحد القذف، كما ينبغي التطابق في أقوال الشهود الأربعة بحيث تنبأ
شهادتهم عن صدور الجريمة من المتهم في زمان ومكان متفق عليه، وإلا تعرضوا للعقاب.
ويدل عليه صحيحة محمد بن قيس عن الإمام الباقر (ع) قال:
(قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) لا يُجْلَدُ رَجُلٌ
وَلا امْرَأَةٌ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِمَا أَرْبَعَةُ شُهُودٍ عَلَى الإِيلاجِ وَالإِخْرَاجِ
وَقَالَ لا أَكُونُ أَوَّلَ الشُّهُودِ الأَرْبَعَةِ أَخْشَى الرَّوْعَةَ أَنْ يَنْكُلَ
بَعْضُهُمْ فَأُجْلَدَ) (8).
وصحيحته الأخرى عن الإمام الباقر (ع) قال: (قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) لا يُرْجَمُ رَجُلٌ وَلا
امْرَأَةٌ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ شُهُودٍ عَلَى الإِيلاجِ وَالإِخْرَاجِ)
(9).
4. عقوبة القذف تجمع بين عقوبة مادية تتمثل في الجلد
ثمانين جلدة، وأخرى معنوية تتمثل في رفض شهادة القاذف والحكم عليه بالفسق.
﴿فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ﴾.
أ. عقوبة الجلد نص عليها الكتاب
كما في هذه الآية المباركة، ونصت عليها السنة الشريفة مع بيان طريقة التنفيذ.
رَوَى عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ حَرِيزٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: (الْقَاذِفُ يُجْلَدُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَلاَ تُقْبَلُ لَهُ
شَهَادَةٌ أَبَداً إِلاَّ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَوْ يُكْذِبَ نَفْسَهُ، فَإِنْ شَهِدَ
لَهُ ثَلاَثَةٌ وَأَبَى وَاحِدٌ يُجْلَدُ الثَّلاَثَةُ وَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ
حَتَّى يَقُولَ أَرْبَعَةٌ رَأَيْنَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ) (10).
وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّوْفَلِيِّ
عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
(ع): (أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) أَنْ لاَ يُنْزَعَ شَيْءٌ مِنْ ثِيَابِ الْقَاذِفِ
إِلاَّ الرِّدَاءُ) (11).
وَرَوَى أَيْضَاَ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ سَأَلْتُ
أَبَا إِبْرَاهِيمَ (ع) عَنِ الزَّانِي كَيْفَ يُجْلَدُ؟ قَالَ (ع): (أَشَدَّ الْجَلْدِ. قُلْتُ: فَمِنْ فَوْقِ ثِيَابِهِ؟ قَالَ:
بَلْ تُخْلَعُ ثِيَابُهُ. قُلْتُ فَالْمُفْتَرِي؟ قَالَ (ع): يُضْرَبُ بَيْنَ الضَّرْبَيْنِ
جَسَدُهُ كُلُّهُ فَوْقَ ثِيَابِهِ) (12).
ومن هذه الروايات وغيرها اتفق الفقهاء بأن حد القذف ثمانون
جلدة رجلاً كان أو امرأة كما هو نص الكتاب والسنة، يجلد الرجل قائماً على
أن لا يجرد من ثيابه أثناء الجلد، وتجلد المرأة قاعدة، وأن تكون شدة الجلد وسطاً بين
الأعلى كما في حد الزنا، والأدنى كما في حد الخمر، وهذا
معنى قول الإمام (ع) في الرواية (يُضْرَبُ بَيْنَ الضَّرْبَيْنِ).
ب. عقوبة رفض شهادة القاذف، وهي
إن لم تكن أشد من العقوبة الأولى فليست بأقل منها، وذلك لما تمثل الشهادة من مكانة
مرموقة تعتمد في إثبات أو نفي الموضوعات الشرعية كالأهلة وما يترتب عليها من صيام وحج
المسلمين وأعيادهم، والموضوعات الجنائية كالسرقة والقتل والزنا واللواط.. وغيرهم، والموضوعات
القضائية والعرفية وغيرهما.
وهذا يعني ضرورة الحفاظ على نقاوتها وإبعادها عن ساحة العابثين،
فالعبث فيها هو في الحقيقة عبث في البعد الديني والمدني والقضائي والعرفي في المجتمع،
ولذلك اشترطت العدالة في الشاهد كضمانة لسير الشهادة في الاتجاه الصحيح.
ومن هنا يمكن لنا أن نفهم هذا النهي القرآني في قوله سبحانه ﴿وَلَا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً﴾ والقاضي برفض شهادة
القاذف.
ت. الحكم عليه بالفسق، ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ وهي عقوبة أوسع من سابقتها كثيراً
(رد الشهادة) لأنها تحرمه من الاقتراب من الكثير من المواقع المتقدمة في المجتمع وخصوصاً
تلك التي يشترط فيها العدالة، كإمامة الجماعة، والقضاء، والمرجعية.. وغيرها.
والفسق في الأصل هو الخروج عن الإطار المرسوم من قبل الشارع
المقدس، وهو "يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير، لكن تعورف فيما كان كثيراً، وأكثر
ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقر به، ثم أخَلَّ بجميع أحكامه أو ببعضه" (13).
· توبة القاذف
﴿إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
1. من اقترف ذنباً فقد خرج عن
الجادة التي رسمها الخالق عز وجل، والتوبة هي تصحيح المسار والعودة إلى تلك الجادة،
وهي لا تكون ذات أثر حقيقي إلا إذا كانت صادرة من عقل واع وقلب طاهر ونفس نادمة، وهذا
هو معنى الصدق في التوبة والإخلاص فيها.
ونظراً لما يحدثه الخروج عن الجادة نتيجة لاقتراف الذنب
من مفاسد وأضرار فإصلاح هذه الآثار تكون جزءاً حقيقياً من التوبة بحيث إذا تخلفت عنها
تخلف صدق التوبة على مابدر من ندم من مرتكب الذنب.
فمن يسرق لا يمكن صدق التوبة عليه ما لم يرد ماسرق إلى
من سرق منه، وكذلك فيمن تطاول على حرمات الناس وأعراضهم لا يمكن التسليم بتوبته
بمجرد الندم أو بالتصريح بأنه تائب، بل لا بد من رد إعتبار لمن انتهكت حرمته بالقذف،
وهذا يفسر لنا ورود ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ بعد ﴿الَّذِينَ تَابُوا﴾.
قال السيد المدرسي: "ليس
جديداً على من يقرأ القرآن، أن يلحظ لحوق كلمة الإصلاح بالتوبة، فكثيراً ما تكرر ذلك
في مواضع مختلفة من القرآن الكريم ذاته، ذلك لان شرط قبول التوبة أن يصلح الإنسان ما
أفسده بذنوبه" (14).
2. بينت الروايات الواردة عن أهل
البيت عليهم السلام طريقة الإصلاح التي يجب على القاذف إتباعها تصديقاً لتوبته، كي
يتمكن من العودة إلى الوضع الطبيعي داخل المجتمع.
وهذه الروايات أكدت على أن عملية الإصلاح تكون بتكذيب نفسه
على رؤوس الأشهاد.
جاء في الصحيح عن محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن أحمد
بن محمد عن ابن محبوب عن عبد الله سنان، قال: (سَأَلْتُ
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) عَنِ الْمَحْدُودِ إِذَا تَابَ أَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؟ فَقَالَ
(ع): إِذَا تَابَ، وَتَوْبَتُهُ أَنْ يَرْجِعَ مِمَّا قَالَ، وَيُكْذِبَ نَفْسَهُ عِنْدَ
الإِمَامِ وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا فَعَلَ فَإِنَّ عَلَى الإِمَامِ أَنْ يَقْبَلَ
شَهَادَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ)(15).
ولهذه الرواية وغيرها قال الفقهاء أن إكذاب نفسه بين الناس
شرط لقبول التوبة وترتيب الأثر عليها، وحقيقة الإكذاب أن يقول: كذبت فيما قلت.
قال صاحب الجواهر: "والتأمل الجيد بعد معلومية عدم
افتراق كلامهم (ع) عن القرآن حتى يردا الحوض،
يقتضى كون المراد بالإصلاح إكذاب نفسه بين الناس
الذي يكون به إصلاح لما أفسده من عرض المقذوف بقذفه، وذلك لظهور النصوص أو صراحتها
في مغفرة ذنب القاذف بالتوبة وإكذاب نفسه، وأنه لا يحتاج بعد ذلك إلى أمر آخر، والآية
ذكرت التوبة والإصلاح، فيعلم حينئذ كون المراد ذلك، لان كلامهم (ع) كالتفسير لها" (16).
3. أداة الاستثناء ﴿إِلَّا﴾ تصدرت هذه الآية المباركة، وقد
جاءت بعد جمل ثلاث، الأولى: ﴿فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾، والثانية:
﴿وَلَا تَقْبَلُوا
لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً﴾، والثالثة: ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، وهنا يمكن لنا أن نتسائل هل المستثنى بعد التوبة والإصلاح هو
مجموع هذه الجمل أم الجملة الأخيرة؟
المشهور بين علماء الأصول أن الاستثناء الواقع بعد الجمل
المتعددة يتعلق بالجملة الأخيرة، وعليه فإن المستثنى هو الحكم بالفسق "لكنها لما
كانت تفيد معنى التعليل بالنسبة إلى قوله: ﴿وَلَا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً﴾ على ما يعطيه السياق
- كان لازم ما تفيده من ارتفاع الحكم بالفسق ارتفاع الحكم بعدم قبول الشهادة أبداً،
ولازم ذلك رجوع الاستثناء بحسب المعنى إلى الجملتين معاً" (17).
4. المغفرة والرحمة الواردة في
نهاية الآية ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ تشجع المذنب على التوبة، فالمغفرة تمحو الذنب وتزيل آثاره، والرحمة
تبين أن أحكام العقوبات لا تنطلق من مبدأ الانتقام من المذنب، وإنما من مبدأ الرحمة
القاضي بتأهيل المذنب وإعادة تفعيل دوره الإيجابي في المجتمع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قال السيد الشيرازي: الظاهر أن القذف (الذي لغة الرمي)
خاص بالنسبة إلى الزنا واللواط فاعلا ومفعولاً، للنص والإجماع بذلك، أما بالنسبة إلى
السحق فعن المحقق وأبي علي الحاقه بهما، لكن المشهور بين لم يذكروه وبين من صرح بالعدم
كالسرائر والمختلف وغيرهما. موسوعة الفقه؛ ج 87، ص 322.
(2) قال مير سيد علي الحائري الطهراني ( م 1340 هـ ق)
في تفسيره: ظاهر الآية لا يدل أي شيء رموا به، وذكر الرامي لا يدل على الزنا إذ قد
يرميها بالسرقة أو بشرب الخمر أو بالكفر، وقد أجمع العلماء على أن المراد الرمي بالزنا.
تفسير مقتنيات الدرر وملتقطات الثمر؛ ج 7، ص 315.
(3) زبدة البيان في أحكام القرآن، المقدس الأردبيلي؛
ص 661.
(4) النهاية، الشيخ الطوسي؛ ص 722.
(5) لسان العرب، ابن منظور؛ ج 13، ص 120.
(6) التبيان، الشيخ الطوسي؛ ج 3، ص 171.
(7) قال السيد الخوئي (قدس سره): ما ذكره جمع من الأصحاب
من اعتبار الرؤية في الشهادة، ولزوم أن تكون على الجماع والإيلاج والإخراج كالميل في
المكحلة، واستندوا في ذلك إلى معتبرة أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (ع): (لا يرجم
الرجل والمرأة حتى يشهد عليهما أربعة شهداء على الجماع والإيلاج والإدخال كالميل في
المكحلة). وإلى صحيحة حريز عن أبى عبد الله (ع) قال: (القاذف يجلد ثمانين جلدة ...
ولا تقبل شهادتهم حتى يقول أربعة رأينا مثل الميل في المكحلة).
والظاهر أن ما ذكروه أمر لا يتحقق في الخارج إلا في فرض نادر، ولازم ذلك سد باب الشهادة في الزنا نوعا، مع أن كثيرا ما تحققت الشهادة على الزنا في زمان رسول الله (ص) ومن بعده، ورتب على الشهادة أثرها من رجم أو جلد، فالجماع كغيره من الأفعال التي يمكن الشهادة عليها من جهة رؤية مقدماتها الملازمة لها خارجا المحققة لصدق الرؤية والحس بالإضافة إلى المشهود به عرفا.
وأما معتبرة أبي بصير فلا دلالة فيها على اعتبار الرؤية في الإيلاج والإدخال كالميل في المكحلة، وإنما المعتبر فيها الشهادة على ذلك . وقد عرفت أن الشهادة تتحقق برؤية الأفعال الملازمة له خارجا، فيشهد الرائي على الإدخال كالميل في المكحلة . وأما صحيحة حريز فلابد من حملها على رؤية المقدمات الملازمة له خارجا الموجبة لصدقها بالإضافة إلى الجماع عرفا . مباني تكملة المنهاج؛ ج 1، ص 179.
والظاهر أن ما ذكروه أمر لا يتحقق في الخارج إلا في فرض نادر، ولازم ذلك سد باب الشهادة في الزنا نوعا، مع أن كثيرا ما تحققت الشهادة على الزنا في زمان رسول الله (ص) ومن بعده، ورتب على الشهادة أثرها من رجم أو جلد، فالجماع كغيره من الأفعال التي يمكن الشهادة عليها من جهة رؤية مقدماتها الملازمة لها خارجا المحققة لصدق الرؤية والحس بالإضافة إلى المشهود به عرفا.
وأما معتبرة أبي بصير فلا دلالة فيها على اعتبار الرؤية في الإيلاج والإدخال كالميل في المكحلة، وإنما المعتبر فيها الشهادة على ذلك . وقد عرفت أن الشهادة تتحقق برؤية الأفعال الملازمة له خارجا، فيشهد الرائي على الإدخال كالميل في المكحلة . وأما صحيحة حريز فلابد من حملها على رؤية المقدمات الملازمة له خارجا الموجبة لصدقها بالإضافة إلى الجماع عرفا . مباني تكملة المنهاج؛ ج 1، ص 179.
(8) وسائلالشيعة؛ ج 27، ص 409.
(9) وسائلالشيعة؛ ج 28، ص 94.
(10) وسائل الشيعة، الحر العاملي؛ ج 28، ص 177.
(11) الكافي، الكليني؛ ج 7، ص 213.
(12) وسائل الشيعة، الحر العاملي؛ ج 28، ص 92.
(13) مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني؛ ص 380.
(14) من هدى القرآن؛ السيد محمد تقي المدرسي.
(15) وسائلالشيعة، الحر العاملي؛ ج 27، ص 385.
(16) جواهر الكلام، الشيخ الجواهري؛ ج 14، ص 41.
(17) تفسير الميزان، السيد الطباطبائي؛ ج 15، ص 81.
رابط الدرس: http://www.m-alhabib.com/home/art280.html
(ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ)
)|ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ |(
( | ~ {قرووب البصيرة الرسالية) . . (للأخبار والمواضيـع الرسالية} ~ | )
)|ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ |(
(ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ )
لمشاهدة والانضمام إلى قروب البصيرة الرسالية في الجيميل:
http://groups.google.com/group/albaseera
لقراءة المواضيع السابقة التي نشرت في قروب البصيرة:
http://albaseeraalresalay.blogspot.com/
ملحق ذا فائدة:
* قروب "محبي الشيخ المجاهد نمر النمر" على الفيس بوك:
http://www.facebook.com/topic.php?topic=5902&post=19686&uid=36375794025#/group.php?gid=36375794025
* لمشاهدة قناة العلامة النمر على اليوتيوب على هذا الرابط::
http://www.youtube.com/user/nwrass2009
* لمشاهدة قناة العلامة النمر على الشيعة تيوب على هذا الرابط:
http://www.shiatube.net/NWRASS2009
* لتنزيل إصدار القبس الرسالي لسماحة الشيخ نمر والذي يحوي 1902 محاضرة:
http://www.4shared.com/dir/10157159/d7de52b5/sharing.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق