السلام عليكم ورحمة الله

نرحب بكم معنا في مدونة البصيرة الرسالية التي نحتفظ بنسخة من رسائلنا المرسلة على قروبنا (البصيرة الرسالية).

تنويه:-

1- من يرغب أن تصله رسائلنا على بريده ليشترك عبر هذا الرابط:

http://groups.google.com/group/albaseera/subscribe

وتأكيد اجراءات الاشتراك من الرابط.

2- لمشاهدة المواضيع السابقة تجدونها مفروزة على حسب أيام الإرسال وذلك من خيار: (أرشيف المدونة الإلكترونية) بالجانب الأيمن من الصفحة.

3- نظراً لطول بعض المواضيع هنا مما يجعل الصفحة طويلة للقارئ سنلجأ إلى وضع جزء من الموضوع وقراءتكم لباقي الموضوع في نهايته بالضغط على الزر الموجه في آخر الجزء المرفق.

ونأمل لكم الفائدة معنا..

24 أغسطس 2009

نص خطبتي الجمعة: ‏(كيف نبني الثقة الاجتماعية؟)‏ سماحة الشيخ عباس السعيد_ساهموا بنشرها معكم

روابط صوتية لخطبتي الجمعة بتاريخ 29-8-1430 هـ:
عنوان الخطبة (1) كيف نبني الثقة الاجتماعية؟
http://www.mediafire.com/?miomzg0mmaf

عنوان الخطبة (2) شهر رمضان بين حِكم التشريع وتطبيق المسلمين
http://www.mediafire.com/?mtyxnqgj2ad

كلا الخطبتين:
http://www.mediafire.com/?j5qnyt5zunq



 
 http://albaseera.googlegroups.com/web/%D8%B4%D9%8A%D8%AE+%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%B3+%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%8A%D8%AF2.jpg?gda=ZwPzKIcAAAAVYvnXUtckTMGhWzr7slu3032tRRvxVLrrH1_p-EY4m2f_J335S0nvJM8I7KelEC35oHdtEyiDRihpYuyDcmDcY6vMLTs5Xxq-a7lPfHofrbo8AHmRqGt617AqF5IVXYIWGC9bGGc8UNhVpRlrHL3e4jX5QZ0vdHnBDt87893RKnleHbr-qQzBoYYWXY0JTQM&gsc=3T_7igsAAAB89u2lRxgrr6DGgJ560ece

الخطبة الأولى: كيف نبني الثقة الاجتماعية؟
صدر الخطبة:
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإن التقوى مطية حمل عليها أهلها طاعة الله فأوردتهم الجنة، فقيل لهم (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ)[1]، إن الإنسان ونتيجة لطبيعته الضعيفة قد يتراجع عن الهدى وعن منهج الله، إلا أن التقوى هي التي تعين الإنسان على الأوبة إلى الله، وعلى أن يكون حافظاً لمنهج الله، والتقوى تتجلى في الخشية من الله والإيمان بالغيب، والتي تمد الإنسان بالبصيرة الإيمانية التي تعينه على الاستقامة على طريق الله،  قال تعالى:(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ* هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ* مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ* ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ* لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)[2]، فيا عباد الله اتقوا الله ولا تغرنكم هذه الحياة الدنيا.
أولاً: أهمية الثقة في البناء الاجتماعي والسياسي:
إن حركة التغيير الاجتماعي لا تكون إلا بالانسجام بين سائر القوى الاجتماعية،فالمجتمعات التي تعيش الثقة بين أبنائها هي التي تتمكن من أن تقود مسيرة النهضة والتقدم،  فعامل الثقة بين الإنسان وأخيه الإنسان هو عاملٌ هام، بدونه لا يتحقق الانسجام ولا يتحقق التكامل، بل إن انعدام الثقة هو من الأسباب الرئيسية وراء الانقسامات والقطيعة الاجتماعية والسياسية، فالذي يثق بالآخر يتواصل معه، فتتلاقح الخبرات، وتتكامل الطاقات والقدرات، أما الذي يتوجس من الآخر، فإن سوف يقاطعه، مما يكرس حالة الانعزال والانقسام في داخل الوسط الاجتماعي.
فوجود الثقة في الأوساط الاجتماعية له إيجابيات، كما أن فقدان الثقة له سلبياته، بطبيعة الحال، وهذا الأمر ينطبق على الأوساط الدينية، فحينما تسود الثقة بين الأوساط الدينية أو بين الفعاليات العاملة في الساحة الاجتماعية حينها يكون الاجتماع والتلاقي، أما حينما تغيب الثقة في هذه الأوساط حينها يكون الانقسام والتشرذم، ولهذا حينما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله أن يقطع دابر التشرذم والانقسام آخى بين المهاجرين والأنصار، من أجل تعميق مبدأ الأخوة والثقة بين المؤمنين، بل لأنه كان يعلم ما لهذا الارتباط من دور في تشكيل القوة الداخلية.
صور انعدام الثقة
إن الثقة قد تهتز بين جهات ومسميات مختلفة في الوسط الاجتماعي، فتارة بين علماء الدين والجماهير، حيث قد تهتز ثقة المجتمع بكفاءة علماء الدين على قيادة الساحة، وحينها يتفرق المجتمع عن علماء الدين، وتارة تهتز الثقة بين علماء الدين والنخب الثقافية، فينظر المثقفون إلى علماء الدين بأنهم اقصائيون متشددون يحتكرون الحقيقة لأنفسهم، وهكذا علماء الدين قد ينظرون إلى المثقفين بأنهم متغربون متمردون على تعاليم الدين، ولا شك أنه حينما تهتز الثقة بين الجهات المتعددة، فهذا يؤدي إلى حالة من التفرق والانقسام والقطيعة. 
بل حينما يعيش أي مجتمع من المجتمعات أزمة ثقة بينه وبين قياداته ونخبه، فهذا يعني أن حركة هذا المجتمع ستنتهي إلى الجمود والتخلف، لأن عدم الثقة يعني عدم التلاقي، عدم التعاون، عدم التأييد، وهنا سيكون انفصال بين القيادات والنخب وبين الجماهير، ولا يمكن أن يكون هناك تغيير حقيقي في مسيرة المجتمعات ما لم يكن هناك اتصال بين القيادات وبين الجماهير.   
وهكذا ذات الأمر قد يجري في الواقع السياسي، حيث قد تهتز الثقة بين الخطوط المختلفة في داخل النظام السياسي مما يسبب شرخ في النظام السياسي، وتارة تهتز الثقة بين الشعب وبين النظام السياسي، مما يسبب القطيعة والانقسام بين الشعب وبين نظامه السياسي، وكل هذا يؤدي بالنظام السياسي إلى الضعف.
فالنظام الاجتماعي كما النظام السياسي قد يتمزق حينما تهتز الثقة، ولا يمكن تصحيح العلاقة سواء في داخل الوسط الاجتماعي أو في الواقع السياسي إلا بإعادة بناء الثقة، وأي محاولة لتصحيح العلاقة بين فئات المجتمع مع بعضها البعض، أو بين الشعب ونظامه السياسي، لا بد أن تقوم على أسباب الثقة،  وإلا فإن كل هذه المحاولات سوف تبوء الفشل مهما كانت المساعي، ومهما كانت الجهود.
ثانياً: هل نعيش أزمة ثقة؟     
وهنا لا بد أن نأتي إلى واقعنا، هل تعيش مجتمعاتنا حالة من اهتزاز الثقة فيما بينها أم لا؟  وهذا سؤالٌ صريح لا بد من طرحه والإجابة عليه حتى نتمكن من التعامل مع الواقع تعاملاً صحيحاً.
لا يوجد جواب على هذا السؤال أفضل من الواقع العملي، فالقطيعة والتنافر -والتي تحدث بنسبة أو بأخرى- بين الجماهير وعلماء الدين، أو بين المثقفين وعلماء الدين، أو بين الجماعات العاملة لا شك أنها تعكس حالة من اهتزاز الثقة، وإن لم نقل كذلك، لا أعتقد أن أحداً يختلف في أن المسافات الموجودة بين الجماعات والخطوط ليست حالة صحية، فالكل يتفق بأن استمرار العلاقات الاجتماعية بأوضاعها القائمة لا يخدم المصالح الدينية والمصالح الاجتماعية العامة، في الواقع إننا نعيش اهتزازاً في الثقة بين بعضنا البعض، وهذه الحالة من اهتزاز الثقة هي التي تجعل التواصل والتلاقي والعمل المشترك عملية صعبة، وهي التي تضع حاجزاً نفسياً يحول بيننا وبين التواصل والتلاقي.     
ثالثاً: كيف تهتز الثقة؟
ولهذا لا بد أن نقف لنتساءل: كيف تهتز الثقة بين مختلف الجماعات والفاعليات في الوسط الاجتماعي؟
وقبل أن نجيب على هذا السؤال لا بد أن نعرف: أن الثقة ترتبط ارتباطاً حقيقياً بالمعرفة أو الانطباع الذي يشكله الإنسان عن الآخر، وهذه المعرفة أو الانطباع الذي يشكله الإنسان عن الآخر، إذا كان إيجابياً فإن العلاقة سوف تكون إيجابية، وإذا كان الانطباعُ سلبياُ أسوداُ قاتماً لا شك أن العلاقة سوف تصبح سلبية.
ونظرة الإنسان إلى الإنسان الآخر تارة تستند إلى حقائق، فيكون موقفه -سواءً كان إيجابياً أو سلبياً- مستنداً إلى معرفة، فأنا لدي علاقة حسنة بالشخص الفلاني لأنني عرفته عبر سنوات، ورأيت منه العلم والجهاد والإخلاص والاستقامة والتواضع، فهذه النظرة والثقة التي تحققت تستند إلى علم، وتارة نظرة الإنسان إلى الإنسان الآخر تكون مستندة إلى أوهام أو معلومات مكذوبة أو تصورات لا واقع لها، وهذا مثل إنسان يتخذ موقف سلبي من إنسانٍ آخر بناءً على ظنون وتصورات لا اعتبار لها، فأنا سمعت من فلان بأن الشخص الفلاني تكلم عن مرجعي بالكلام الفلاني، أو أنني سمعت بأن فلاناً لديه موقف سلبي من جماعتي، ولا شك أنه تارة تكون هذه النقولات صحيحة، وتارة تكون مجرد تصورات وأوهام لا واقع لها، أو أن حدثاً حصل، لكنه ضُخم وأعطي أكبر من حجمه الطبيعي.
ولهذا لو جئنا إلى الأسباب التي تؤدي إلى انعدام الثقة يمكن أن نشير إلى:
أولاً:  سوء الفهم:
فسوء الفهم هو أحد الأسباب التي تؤدي إلى اهتزاز الثقة بين العاملين في الأوساط الاجتماعية، وسوء الفهم يمكن أن يحدث بين الإخوان في البيت الواحد فضلاً عن العاملين في الساحة الدينية والاجتماعية،  ونحن في كثير من الأحيان لا نقيم علاقتنا مع الآخر بناء على معرفة حقيقية بواقعه، وإنما غالباً  ما تكون النظرة مستندة إلى ظنون وأوهام أو نقولات غير دقيقة، فأنا قد أسمع عن فلان أنه يتبنى الموقف الفلاني إلا أنني قد لا أعرف دوافعه، والتي لو اطلعت عليها لغيرت رأيي فيه.    
ثانياً: المصداقية:
فالمصداقية هي من العوامل الأساسية التي تتوقف عليها الثقة الاجتماعية،والمصداقية تبتني على تطبيق القيم المشتركة التي يؤمن بها الجميع، فالجماعات العاملة تتفق مع بعضها البعض على قيمة الحرية والكرامة والشهادة بالقسط والحق، لكن الثقة بين الجماعات تبتني على تطبيق هذه القيم، وتهتز حينما نتخلى عن تطبيقها في الواقع الخارجي.
 وهكذا في الواقع السياسي، بين النظام السياسي والشعب قيم مشتركة حينما يتجاوز طرف من الأطراف هذه القيم، تتعرض الثقة إلى الاهتزاز، بل حينما تتكرر هذه التجاوزات فإن الثقة تنعدم بين الطرفين، فلو أن نظاماً ادعى على أنه يتفق مع شعبه على قيمة الحرية والكرامة، إلا أنه دائماً ما تتكرر منه تجاوزات لهذه القيم، هنا لا شك أن عقد الثقة سوف يتقطع،وحينها لا يمكن أن تستعاد الثقة إلا بتطبيق القيم المشتركة، وهذا مثل ما يحدث بين العرب وبين إسرائيل، حيث دائماً ما تدعي إسرائيل أنها تجتمع مع العرب على قيمة السلام، إلا أنها في الواقع الخارجي دائماً ما تتكرر منها تجاوزات لقيمة السلام، طبعاً هنا لن يثق أحدٌ بالإدعاءات الفارغة التي تطرحها إسرائيل، وإلا كان إنساناً مغفلاً ساذجاً.  
الحلول:
ولا شك أنه إذا كنا نعيش أزمة ثقة، لا بد أن نبحث عن الحلول التي تقلص من المسافات الموجودة بين العاملين، وتقرب مختلف الفاعليات إلى بعضها البعض، هنا يمكن أن نذكر عدة أمور: 
أولاً: النقد الذاتي:
فكل جماعة يجب أن تقيم ذاتها، فلا ريب أن هناك أخطاء ونقوصات تعرض مصداقية كل جماعة إلى الاهتزاز عند الجماعات الأخرى، ولا شك أنه لا يوجد أحد معصوم أو فوق النقد، فالكل له أخطاء وسلبيات، وإصرار كل جماعة من الجماعات، وكل خط من الخطوط على سلبياته هو الذي يفاقم الأوضاع ويقود العلاقات الاجتماعية إلى الانقسام والتفرق، أما إذا كانت هناك دراسة للسلبيات الموجودة، وهناك سعي من أجل إصلاحها، فهذا سوف يساعد على رسم صورة جديدة في الواقع الاجتماعي، وبالتالي سوف تصاغ العلاقات بالشكل الصحيح.
وذات الكلام بالنسبة للأفراد، كل فرد بحاجة إلى أن يعيد النظر في طبيعة علاقته مع الآخر حتى يتمكن من تصحيح السلبيات التي تضعف الثقة بينه وبين الآخرين.  
ثانياُ: الحوار والتواصل:
حيث أن الحوار والتواصل هو الذي يقرب المسافات بين العاملين، وهو الذي يقتلع التصورات والأوهام التي تعشعش في أذهان الكثيرين،  وبالقطع واليقين هناك تصورات قد نحملها اتجاه الآخرين لكن هذه التصورات قد تتبدد حينما يكون هناك الحوار والتواصل، إن حالة العزلة بين الجماعات الدينية أو بين العاملين في الساحة هي حالة سلبية تساعد على استمرار القناعة السلبية وهدم الثقة فيما بيننا.
وختاماً أقول: إن كثير من العلاقات الاجتماعية بحاجة إلى ترميم وإعادة صياغة، ولا شك أن هذا لا يكون إلا إذا فتشنا عن أسباب الثقة، وعمدنا إلى الحلول العقلائية التي من شأنها أن تجعل العلاقات أكثر توازناً، أسال الله سبحانه أن يوفق المؤمنين والمؤمنات لذلك.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
بسم الله الرحمن الرحيم
قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.

الخطبة الثانية: شهر رمضان بين حِكم التشريع وتطبيق المسلمين
صدر الخطبة:
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإن لله سبحانه نفحات روحية وأبوابٌ للرحمة يمن بها على عباده المؤمنين، والشقي من حرم نفسه من النفحات الإلهية، ولم يدخل أبواب رحمة الله سبحانه.  (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ* يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[3] فالرحمة الإلهية لها شروط، فالله سبحانه لا يمن على الإنسان بالرحمة إلا إذا بلغ مرتبة الهدى.
والإنسان حتى يتمكن من بلوغ الهدى؛ والذي هو شرط الرحمة الإلهية، هو بحاجة إلى إرادة صلبة، وعقل متحرر من الأهواء والشهوات، كما هو بحاجة إلى البصائر والرؤى التي تنير له الطريق، فالإنسان بدون الإرادة الصلبة، وبدون العقل المتحرر، وبدون البصائر، لا يمكن له أن يصل إلى الهدى.
 بل إن الهدى لا يعني إلا القدرة على تكييف النفس وفق قيم الوحي وبصائر الرسالة، والتفاعل معها بعقله وروحه وجوارحه،  وهذا لا يكون إلا بالإرادة والعقل المتحرر من الأهواء والشهوات، مضافاً إلى البصائر والرؤى التي تنير للإنسان طريقه، وبقدر ما يمتلك الإنسان من الهدى بقدر ما يتمكن من تكييف نفسه وفق قيم الوحي، وبصائر الرسالة، فالهدى يمثل نقلة نوعية حقيقة في شخصية الإنسان والمجتمع، لأنه من خلال الإرادة الصلبة، ومن خلال العقل المتحرر، ومن خلال البصائر، تتغير مسارات الإنسان والمجتمع، ويتغير واقعه بالكامل، فينتقل من الضعف والتخلف والتبعية، إلى القوة والتقدم والريادة.  
شهر رمضان طريق الإنسان للهدى
والتشريعات الإلهية تتكفل بتحقيق كل عناصر الهدى للإنسان وللمجتمع، ولكن بالتطبيق الصحيح لهذه التشريعات، ودائماً وأبداً ما تجد الفجوة الشاسعة بين حِكم التشريعات الإلهية وبين التطبيق البشري لهذه التشريعات، ونحن نقف على أعتاب شهر رمضان الكريم، والذي من خلاله يتمكن الفرد والمجتمع من بلوغ أسمى مراتب الهدى والتقوى، لكن ذلك رهينٌ للوعي وحسن التطبيق، بل هو رهينٌ للإرادة باستقبال شهر رمضان، واستقبال ما فيه من نفحات روحية وبصائر رسالية من أجل تغيير الذات والمجتمع .. وبكلمة؛ إن شهر رمضان فرصة سانحة للتغيير والبناء، لا يستثمرها إلا من أراد التغيير.
ولهذا ينبغي على كل إنسان أن يتساءل: هل هو مستعدٌ لاستقبال شهر رمضان، أم لا؟
هناك من الناس من يقرر استثمار شهر رمضان بما يكمل شخصيته على الصعيد الروحي والثقافي والاجتماعي، ولهذا هو يستقبل شهر رمضان بوعيٍ وتعقل وإرادة إيمانية، فشهر رمضان بالنسبة إليه محطة تتألق فيها الروح لتعرج الله سبحانه من خلال الدعاء والتدبر في القرآن وإخلاص العبادة لله سبحانه، كما أن شهر رمضان فرصة سانحة للتألق الثقافي من خلال الندوات والمحافل الثقافية التي تنوّر الإنسان، مضافاً إلى أن شهر رمضان يمثل ظرفاً للتلاقي الاجتماعي وتوطيد العلاقات بين المؤمنين، فهناك من يقرر قراراً حاسماً لاستثمار شهر رمضان وما فيه من ثمار ونفحات.
وهناك من الناس من يوصد أبوابه أمام هذا الشهر الفضيل وما فيه من نفحات، فلا يستعد لاستثماره كما يريد الله منه، نعم، هو قد يستعد لاستثمار رمضان، ولكن بالشكل المقلوب الذي يتنافى مع حِكم شهر رمضان.
شهر رمضان بين المفروض والواقع!
ولهذا لا بد أن ننظر إلى شهر رمضان كما أراده الله سبحانه وكما هو الواقع لنعرف مقدار الفجوة الكبيرة بين حِكم التشريع الإلهي وبين سوء التطبيق البشري، فكل من ينظر إلى واقع التطبيق لهذه الفريضة الإلهية في هذا الشهر الكريم، يرى حجم الهوة بين النظرية والتطبيق، بل إن كثير من الممارسات الاجتماعية الخاطئة هي تطبيقٌ لحِكم الصيام بالمقلوب!  فهناك سلبيات في واقع التطبيق والممارسة لا بد للمجتمع أن يتجاوزها.
 أولاً: ننام الليل أم ننام النهار!
إن من الحِكم الأساسية لتشريع الصوم هو أنه يربي الإنسان على تحكيم الإرادة في طريق الله وفي الضد للأهواء والشهوات، ولا شك أن هذه الحكمة لا تتأتى إلا لمن نام الليل واستيقظ في النهار، وجاهد نفسه وقوى عزيمته وتغلب على الأهواء والشهوات وصرعها.
أما من يقلب المعادلة فينام النهار، ويجعل الليل للتلذذ بصنوف الأطعمة والأشربة، وصرف الوقت في خلاف ما يرضي الله، ولا يتورع عن مشاهدة الفضائيات التي تروج للسفور والإثارة، فهذا لم يحقق الِحكم من الصوم قطعاً، إن الصوم الذي يفرغ من حقيقته ليس صوماً قطعاً، وإنما هو مجرد صورة لم يجني منها الإنسان إلا الجوع والعطش.
ثانياً: إلى من نستمع في شهر رمضان!
إن الله أراد من الإنسان في رمضان أن يتغلب على الأهواء والشهوات بالصيام، كما أراد منه أن يستمع إلى نداء الله، بل إن الله سبحانه أنزل كتابه الحكيم وأعظم رسالاته للإنسان في هذا الشهر الكريم حتى يتوجه في هذا الشهر وهو في حال الصيام إلى نداء الله، بل إن الله سبحانه حينما عرف شهر رمضان في كتابه الحكيم لم يُعرِّفه بأنه شهر الصيام، وإنما عرَّفه بأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[4]  
إن تعريف شهر رمضان بأنه الذي أنزل فيه القرآن ليس تعريفاً اعتباطياً قطعاً، فالله سبحانه كرّم هذا الشهر إذ جعله ظرفاً لنزول أعظم رسالاته فيه، وهذا لا يعني إلا توجيه المؤمنين للالتصاق بالوحي أكثر وأكثر في هذا الشهر الفضيل، وهنا يأتي التساؤل: إلى من نستمع في شهر رمضان؟ هل نستمع إلى الأفواه التي تنطق بالحق وتنطق عن الله، أم نستمع إلى الأفواه النتنة التي تنطق باسم الشيطان!
مع الأسف حينما ننظر إلى الساحة الاجتماعية في الأعوام السالفة نرى عزوفاً وإعراضاً واضحاً عن البرامج الدينية، التي تقدم الثقافة الرسالية الأصيلة، بينما نرى أن مواقع اللهو عامرة ومكتظة، وهذا يكشف عن أنه لا توجد إرادة مسبقة لاستقبال شهر رمضان، وإنما توجد إرادة لاستقبال اللهو واللعب والسفاسف التي لا تغني ولا تسمن من جوع.  
إن الاستماع إلى الناطقين باسم الشيطان والإنصات والمشاهدة للبرامج والمسلسلات التي تعرض السفور والمجون لا يعني إلا الابتعاد عن أجواء الرحمة الإلهية التي تحققت بنزول القرآن في هذا الشهر الفضيل،  بل أن ذلك يعدُ شذوذاً عن الحقيقة الغيبية لهذا الشهر الكريم الذي فيه تتفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وتغل الشياطين، وتتنزل الملائكة! فيا ترى من الذي يقرر الابتعاد عن كل ما يسخط الله ويبتعد عن شياطين الإنس! فإذا كانت شياطين الجن في شهر رمضان مغلولة، فإن شياطين الإنس مُسلطة! إن شهر رمضان هو محطة للهداية بالقطع واليقين، ولكن لمن يستثمرها في الاستماع إلى نداء الله.
ثالثاً: هل نصوم عن الطعام والشراب فقط أم تصوم كل جوارحنا؟  فهذه تساؤلٌ هام، والإجابة عليه هي التي تفرق بين الصوم كما يريده الله، وبين الصوم في الواقع، حيث أن حقيقة الصوم هو الإمساك، ولقد أراد الله سبحانه من الإنسان في رمضان أن يمسك عن كل محرم، وليس فقط أن يمسك عن الطعام والشراب والجنس. 
ولهذا حينما يسأل أمير المؤمنين عليه السّلام رسول الله صلى الله عليه وآله: ما أفضل الأعمال في هذا الشهر ؟ فقال: يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزَّ وجلَّ، أي أن يتورع الإنسان عن كل محرم ويتجنبه، فتصوم عيناه وتصوم أذناه ويصوم لسانه، وكل جوارحه عن مقاربة المحرمات.
 وهذا حتى يدرب الإنسان نفسه على تجاوز الأهواء والشهوات على امتداد العام وليس في خصوص شهر رمضان، كما نجد بعض الناس حينما يمتنعون عن بعض المحرمات في رمضان، ويرجعون إليه بعده، وكأن الإنسان يترك المعصية لشهر رمضان وما فيه من أجواء، وليس لأن الله حرم هذا أو أمر بذاك، حيث أن أوامر الله ونواهيه هي هي على امتداد السنة. 
فالصيام الحق ليس الصيام عن المفطرات فحسب، وإنما هو الصيام الذي يحتضن فيه الإنسان الطاعات وينبذ المحرمات، وهكذا يكون الصيام انتفاضة على الذات ومحطة من أجل التغيير، وتجاوز كل السلبيات التي يمارسها الإنسان على امتداد العام.
رابعاً: هل رمضان من أجل ضبط غريزة الطعام والشراب والجنس أم هو من أجل إثارتها؟
وهذه من المفارقات الواضحة في واقعنا الاجتماعي بين الحِكم الإلهية من تشريع الصوم وبين التطبيق الخاطئ، حيث إن الله سبحانه أراد شهر الصوم ليكون انتفاضة على الذات، وعلى ما ألفه الإنسان من الاستجابة المستمرة لنداء الأهواء والشهوات، وليس من أجل تكريس هذه الحالة.
ونحن لو نظرنا إلى الممارسة الاجتماعية الواقعية في شهر رمضان لوجدناها تسير خلاف التشريع الإلهي، حيث أنه من حِكم الصيام التقليل من الطعام والشراب من أجل أن يمتلك الفرد القدرة على ضبط الأهواء والشهوات، وليس من أجل التفنن في إعداد الأطباق الكثيرة التي تكرس إتباع الشهوات، وتصيب الإنسان بالتخمة فتذهب معها الفطنة، ولهذا كيف يمكن للفرد أن يتفاعل مع البرامج الدينية التي تقدم في الفضائيات أو في الساحة الاجتماعية، وهو قد أثقل بطنه بصنوف الأطعمة والأشربة!
 وأحد الأسباب التي تعمق وتجذر هذه الحالة أننا لا نقنع في رمضان إلا بمائدة فيها العديد من الأصناف، وفي أحيان كثيرة يكون الرجال هم سبب هذه الحالة، مما يجعل رمضان شهراً للطبخ وليس شهراً للعبادة! كما أن شهر رمضان هو محطة من أجل ضبط الغريزة الجنسية وليس من أجل إثارتها بمشاهدة السفور والمجون الذي تعرضه بعض الفضائيات المتفسخة أخلاقياً.
ختاماَ أقول: لهذا فإن الله سبحانه لا يمن على الإنسان بالهدى في شهر رمضان، إلا بالتطبيق الصحيح لحِكم هذا الشهر،  فحينما ينام الإنسان ليلاً ويستيقظ نهاراً، ويستقبل الحياة ويتحمل عناء الصوم، حينها يمتلك الإنسان الإرادة الصلبة، وحينما تصوم جوارحه عن المحرمات يمتلك الإنسان عقلاً متحرراً من الأهواء والشهوات، وحينما يتعلق الإنسان بالوحي وبكتاب الله الذي أنزله في هذا الشهر، ويتفاعل مع البرامج الدينية والثقافية الهادفة حينها يمتلك الوعي والبصيرة، وحينها تتكامل عناصر الهدى بالنسبة للفرد، بل يخرج الإنسان من شهر رمضان بنقلة نوعية حقيقية في شخصيته. 
ولهذا الإنسان بحاجة إلى أن يستقبل شهر رمضان بعقلية مختلفة، يستحضر فيها الأهداف الإلهية السامية من هذه الفريضة الإلهية حتى يتمكن من تحقيقها.
نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لصيامه وقيامه، وأن يقربنا فيه من الطاعات، ويبعدنا فيه عن المعاصي والمحرمات.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.
بسم الله الرحمن الرحيم
والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعلموا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.


[1] سورة الحجر، 46
[2] سورة ق، 31-35
[3] سورة آل عمران، 73-74
[4] سورة البقرة، 185


            (ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ)
             )|ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ |(
            ( |  ~ {قرووب  البصيرة  الرسالية)  .  .  (للأخبار  والمواضيـع  الرسالية} ~  | )
             )|ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــ |(
            (
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ )


لمشاهدة والانضمام إلى قروب البصيرة الرسالية في الجيميل:

http://groups.google.com/group/albaseera


ملحق ذا فائدة:

* قروب "محبي الشيخ المجاهد نمر النمر" على الفيس بوك:
http://www.facebook.com/topic.php?topic=5902&post=19686&uid=36375794025#/group.php?gid=36375794025

* لمشاهدة قناة العلامة النمر على اليوتيوب
على هذا الرابط::
http://www.youtube.com/user/nwrass2009

*
لمشاهدة قناة العلامة النمر على الشيعة تيوب على هذا الرابط:
http://www.shiatube.net/NWRASS2009

* لتنزيل إصدار القبس الرسالي لسماحة الشيخ نمر والذي يحوي 1902 محاضرة:

http://www.4shared.com/dir/10157159/d7de52b5/sharing.html

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق