السلام عليكم ورحمة الله

نرحب بكم معنا في مدونة البصيرة الرسالية التي نحتفظ بنسخة من رسائلنا المرسلة على قروبنا (البصيرة الرسالية).

تنويه:-

1- من يرغب أن تصله رسائلنا على بريده ليشترك عبر هذا الرابط:

http://groups.google.com/group/albaseera/subscribe

وتأكيد اجراءات الاشتراك من الرابط.

2- لمشاهدة المواضيع السابقة تجدونها مفروزة على حسب أيام الإرسال وذلك من خيار: (أرشيف المدونة الإلكترونية) بالجانب الأيمن من الصفحة.

3- نظراً لطول بعض المواضيع هنا مما يجعل الصفحة طويلة للقارئ سنلجأ إلى وضع جزء من الموضوع وقراءتكم لباقي الموضوع في نهايته بالضغط على الزر الموجه في آخر الجزء المرفق.

ونأمل لكم الفائدة معنا..

9 يناير 2010

كلمة المرجع المدرسي بعنوان: ‏(ولاية الإمام السجاد عليه السلام تسامي في معراج الكمال)‏_ساهموا بنشرها معكم



بسم الله الرحمن الرحيم

ها نحن مقبلون على نهايات شهر محرم الحرام، وقد عشنا مع الإمام الحسين عليه السلام ذكرى عاشوراء، مجددين له العهد بالموالاة له والتبري من أعدائه، والثبات على منهاجه..
واليوم نعيش ذكرى وداع الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، حيث طالت إليه أيادي الغدر والخيانة، فذهب إلى ربه شاهداً وشهيداً.
وبهذه المناسبة نتقدم إلى جميع المؤمنين بالتعازي، ونقول: عظم الله أجوركم بهذا المصاب الجلل، سائلين الله تعالى أن يثبتنا جميعاً على ولاية النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الهداة عليهم السلام، وأن لايفرق بيننا وبينهم طرفة عين أبداً.
وإحياءاً لهذه المناسبة، وتخليداً لذكر الإمام السجاد عليه السلام، نقدم لكم كلمة بقلم المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي حفظه الله تعالى، تحت عنوان: (ولاية الإمام السجاد عليه السلام؛ تسامي في معراج الكمال).

مكتب المرجع الديني
آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي

ولاية الإمام السجاد عليه السلام تسامي في معراج الكمال 
http://albaseera.googlegroups.com/web/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%AC%D8%B9+%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B1%D8%B3%D9%8A.jpg?gda=Z86UdX8AAADBbJUEfi76RbqLicTF9wq325eshuYF5OlRrXyDbuQucdELJIqefUFmfXgW3YH0LVmipw1Uex48oz5E1jwzCknFIZneFG0KqEB7RWdW0qccT6y6-_eXJ1z5yj0pEDOB6XItHvQsksY4Gi92lvkIfCZ0nHMhSp_qzSgvndaTPyHVdA

تتملَّكنا الدهشة عندما نستمع إلى الوحي يأمرنا بالولاية، ونتساءل: ما هذا التأكيد المتواصل، وما هذه التعابير البالغة أمراً وتحريضاً وترغيباً؟

يقول الله سبحانه: { أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } (النساء،59).

وتكرر أوامر القرآن بالطاعة لأولي الأمر الشرعيين والتسليم لأمرهم، والنهي عن طاعة الطغاة والجبابرة وضرورة الكفر بهم أكثر من مئة مرة، بصيغ مختلفة، وضمن سياقات شتى، كلها تهدف إلى ترويض النفس البشرية على الطاعة والإنضباط.

ويقول سبحانه وتعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (النساء،65).

وتتواصل آيات الذكر لتؤكد على الرجوع إلى الله ورسوله عشرات المرات وبتعابير شتى:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (النساء،60).

وهكذا العديد من الآيات تنهى وبشدة بالغة من التحاكم إلى الطاغوت وتأمر باجتنابه.
ويقول ربّنا سبحانه وهو ينهي مئات المرات عن الشرك ويعتبره ظلماً عظيماً، لايغفره الله تعالى أبداً، يقول:

{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } (الزمر،65).

فما هو الشرك؟ أليس هو عبادة الأصنام؟ أليس إتخاذ الأرباب من دون الله شركاً، كما اتخذ اليهود والنصارى الأحبار والرهبان أرباباً؟
وهكذا نجد أن الولاية الإلهية محور آيات الذكر وروح توحيد الله تعالى، والسبيل إلى رضوانه، والطريق إلى جنَّاته.
فلماذا كل ذلك؟ إن شرح حكمة ذلك يقتضي كتباً مفصلة، ولكننا نختصرها في كلمات نرجو أن يسعفنا فيها تدبُّر القارئ الكريم، وآفاق ثقافته الإسلامية.
أولاً: أمام الإنسان سبيلان: سبيل الله الذي يهديه إلى الجنة والرضوان، وسبيل الشيطان الذي يحمله إلى سواء الجحيم. ويتَّجه كل سبيل إلى جهة، ولكل جهة إمام، ولكل إمام صفات وأسماء، ولكل أمة تابعة صبغةٌ وشرعةٌ ومنهاجٌ.
والصراع الأبدي الذي لاهدنة فيه ولامداهنة ولا حلول وسط، أنه الصراع بين سبيل الله وسُبُل الشيطان.

وقد قال سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (المائدة،15-16).

وولاية الله سبحانه، وتولي أوليائه، واتّباع الإمام المختار من عنده، والإنخراط في حزب الصالحين، كلّها بلا ريب الولاية الإلهية. فكيف لاتتواصى بها رسالات الله ورسله وأوصياؤهم؟
ثانياً: حكمة وجود الإنسان فوق هذا الكوكب ابتلاؤه ليعلم هل يصدق أم هو من الكاذبين؟ هل يُخلص أم يكون من المنافقين؟ ولايُبتلى البشر بشيء كما يبتلى باتّباع القيادة الإلهية ورفض جبابرة المال وطغاة السلطة، أو تدري لماذا؟
إن في ضمير الإنسان كبراً لابد أن يتغلب عليه حتى يصبح من أهل الجنة. وإن لم يتخلص منه باجتهاده وجهاده في الدنيا، فإنه سوف يخلص منه بنار الجحيم في الآخرة، لأنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر. ومحتوى الكبر النزعة السخيفة نحو ادّعاء الربوبية. ولو تسنى لأي إنسان ما تسنى لفرعون لما امتنع عما قاله: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (النازعات،24).
وإنما يتطهر القلب عن الكبر إذا أُمر بطاعة من ليس بأكثر منه مالاً وولداً؛ إطاعته بسبب أمر الله.
وهكذا كانت الفتنة الكبرى للناس عند ابتعاث الرسل، إذ كيف يطيعون بشراً من أمثالهم؟ وقد حكى الله تعالى عنهم بقوله: { أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} (القمر،24).
ويتساءل البسطاء: لماذا امتحن الله تعالى خلقه بطاعة الأنبياء وطاعة أوصيائهم، وقد اختارهم من أوساط الناس؟ ويمضي المتسائل قائلاً: أو لم يكن من الأفضل أن يزوّدهم الله سبحانه بقوى خارقة وبأموال وبنين حتى تسهل طاعة الناس لهم؟
كلا؛ لأنه عندئذ تبطل حكمة الإبتلاء، ولم تكن تصبح طاعتهم تطهيراً للنفوس من الكبر، وبالتالي لم يكن المطيعون لهم يزكّون بذلك إعداداً لدخول الجنة التي هي مأوى عباد الله الخالصين من دنس الشِّرك والكبر.
وهكذا يبين هذه الحكمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إذ يقول:

« ولو أراد الله أنْ يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه، ويبهر العقول رواؤه، وطيبٍ يأخذ الأنفاس عَرفُه لَفعل. ولو فعل لَظلت له الأعناق خاضعة، ولخفَّت البلوى فيه على الملائكة، ولكن الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله، تمييزاً بالاختبار لهم، ونفياً للإستكبار عنهم، وإبعاداً للخيلاء منهم. »[1]

ويضيف الإمام عليه السلام في ذات السياق قائلاً:

«ولو أراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذُّهبان ومعادن العُقيان، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السماء، ووحوش الأرض لفعل. ولو فعل لسقط البلاء، وبطل الجزاء، واضمحلت الأنباء، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت الأسماء معانيها. ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنىً، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذىً».[2]

وبعد بيان مفصل حول حكمة الاختبار في فصل زخارف الدنيا عن أولياء الله يقول سلام الله عليه:

«ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبَّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فتحاً إلى فضله، وأسباباً ذللاً لعفوه.
فالله الله في عاجل البغي، وآجل وخامة الظلم، وسوء عاقبة الكبر، فإنها مصيبة إبليس العظمى، ومكيدته الكبرى، التي تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة».[3]
وهكذا حرَّض الوحي على التسليم للأنبياء وأولي الأمر من خاصتهم، وجعل فيه ثواباً عظيماً. وجاء في حديث مأثور عن النبيِّ صلى الله عليه وآله، أنه قال: « إنّ أوثق عُرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله؛ توالي ولي الله، وتعادي عدوَّ الله. »[4]

وروي عن الإمام زين العابدين عليه السلام قوله:

 «من أحبنا لا لِدُنيا يصيبها منّا، وعادى عدوَّنا لالشحناء كانت بينه وبينه، أتى الله يوم القيامة مع محمد صلى الله عليه وآله وإبراهيم وعلي عليهما السلام. »[5]

وكما يتحدى الإنسان بالولاية نزعة الكبر وادِّعاء الربوبية في ذاته، يتحدى بها نزعة الطمع وشهوات الدنيا، لأن من يطيع أولياء الله يحاربه طغاة الأرض والمترفون في الدنيا بشتى وسائل الحرب، بالدعاية المضادة وبالتضييق الإقتصادي، وبالأذى الجسدي، وحتى بالتشريد والقتل.
ولأن الولاية كانت امتحاناً عظيماً للإنسان، جُعلت شرطاً بقبول الأعمال، حيث إن هدف سائر الطاعات تذليل النفس البشرية المتفرعنة والمتجبرة. وتذليلها لطاعة ربها، وتطهيرها عن دنس الكبر والشرك والشك. وهذا الهدف يبلغ قمته بالولاية، حيث يخضع البشر لبشر مثله لايتميز عنه بجاهٍ عريض، ولابثروة واسعة، وإنما يأمره الله تعالى بذلك. وهذا ما تأباه النفس أشد الإباء وقد سأل بعضُهم أن يَنزل عذاب الله الواقع لكي لايؤمن بالولاية.
وها نحن نقرأ معاً أحاديث في فضل الولاية، لنعرف مدى فضلها وكيف أنها قطب الرحى في تعاليم الوحي.
جاء في حديثٍ مفصلٍ عن أميرالمؤمنين عليه السلام في إجابته لأسئلة زنديق:

«إن الإيمان قد يكون على وجهين: إيمان بالقلب، وإيمان باللسان. كما كان إيمان المنافقين على عهد رسول الله لـمّا قهرهم السيف وشملهم الخوف، فإنهم آمنوا بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم. فالإيمان بالقلب هو التسليم للرب، ومن سلَّم الأمور لمالكها لم يستكبر عن أمره، كما استكبر إبليس عن السجود لآدم، واستكبر أكثر الأمم عن طاعة أنبيائهم، فلم ينفعهم التوحيد، كما لم ينفع إبليس ذلك السجود الطويل، فإنه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام، لم يرد بها غير زخرف الدنيا، والتمكين من النظرة، فلذلك لاتنفع الصلاة والصدقة إلاّ مع الاهتداء إلى سبيل النجاة وطريق الحق.»[6]

ولذلك لم يقبل الله سبحانه طاعة عبد لم يقبل الولاية مهما اجتهد في العبادة والطاعة. هكذا جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، إذ قال:

 «مرّ موسى بن عمران برجل رافعاً يديه إلى السماء يدعو، فانطلق موسى في حاجته فغاب عنه سبعة أيام، ثم رجع إليه وهو رافع يَديه يدعو ويتضرع ويسأل حاجته. فأوحى الله عزّوجلّ إليه: يا موسى: لَو دعاني حتى يسقط لسانه ما استجبتُ له حتى يأتيني من الباب الذي أمرته به. »[7]

فولاية الإنسان صبغة أعماله؛ إنْ خيراً فخيرٌ، وإن شرّاً فشرّ. لذلك جاء في الحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وآله فيما رواه أبو سعيد الخدري:

«لو أنّ عبداً عبد الله ألف عام ما بين الركن والمقام، ثم ذُبح كما يذبح الكبش مظلوماً، لَبعثه الله مع النفر الذين يقتدي بهم، ويهتدي بهداهم، ويسير بسيرتهم، إن جنة فجنة، وإن ناراً فنار».[8]

وهكذا الولاية تكون وجهة المجتمع، وعليها يكون الحساب والجزاء. فقد روي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال الله تبارك وتعالى:

«لأُعذبنَّ كل رعية في الإسلام دانت بولاية كل إمام جائر ليس من الله، وإن كانت الرعية في أعمالها برَّة تقية. ولأعفونَّ عن كل رعية في الإسلام دانت بولاية إمام عادل من الله، وإن كانت الرعية في أنفسها ظالمة مسيئة ».[9]

فَضمنَ إطار الولاية الإلهية لابد أن نعرف شخصية الإمام السجاد عليه السلام وأبعاد حياته. إنه لم يكن كسائر الأنبياء والأئمة. ولايكون خلفاؤهم من الصدِّيقيين والعلماء الربانيين طُلاب حكم وسيطرة، أو قادة حركات سياسية كالتي نفهمها. لا؛ ولكنهم سعوا جاهدين من أجل تطهير قلوب الناس من الجبت، ومجتمعاتهم من الطاغوت. ولكن ذلك لم يكن حكمة حياتهم الأولى حتى نقول: إنهم قد فشلوا في تحقيق ذلك، وإنما كانت الحكمة الأولى ابتلاء الناس، حيث قاموا بتلاوة وحي الله وبتعليم الناس وتزكيتهم. وقد قال ربُّنا سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة،2).
بلى؛ كان من الأهداف السامية لبعثة الرسل، ونهضة أوصيائهم، وقيام أوليائهم، إعداد الناس للقيام بالقسط. ولا أقول قيامهم بالقسط بين الناس، لأن ذلك يوحي بالوكالة في ذلك، وهذا ما ينفيه الوحي ببلاغة نافذة. فاستمع إلى قول ربِّك العزيز:

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد،25).

الإمام السجاد عليه السلام وريث الأنبياء:
ولأن الإمام زين العابدين عليه السلام ورث عن جده النبي المصطفى صلى الله عليه وآله دور الأنبياء عليهم السلام فإن الحكمة الأولى لإمامته هذ ذات الحكمة الأولى في رسالة الأنبياء، ابتلاء الناس بعد دعوتهم إلى الله تعالى، وكانت سائر الأهداف السامية- كإقامة القسط ونصرة المظلومين- في إمتداد تلك الحكمة؛ أي أنها تتفرع منها وتأتي بعدها.
ولقد تسنَّت لسائر أئمة الهدى عليهم السلام الظروف للقيام بتلك الأهداف المتدرجة، وبالذات الهدف السياسي، كما فعل الإمام علي عليه السلام عندما نهض بأعباء الحرب ضد قريش مرتين، مرة في عهد النبي وتحت لوائه، ومرة بعد النبي وتحت لواء الرسالة الحنيفة وبرفقة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله. وهكذا نجله الإمام الحسن عليه السلام، حيث نهض هو الآخر بأعباء الحرب ضد معاوية، ثم أوقف الحرب لمصلحة المسلمين. وكذلك الإمام الحسين عليه السلام، حيث قاوم معاوية بالسبل السلمية، وقام ضد ابنه يزيد بالسيف حتى استشهد مظلوماً.
وهكذا قام سائر الأئمة بأدوار سياسية، وبوسائل غير مباشرة، وبدرجات مختلفة.
بينما الظروف العامة كانت تناسب تمخض الإمام السجاد عليه السلام تقريباً في الدعوة الربانية وبذلك كانت حياة الإمام السجاد قطعة مشرقة بنور ربّه.. وكانت تجلياً باهراً للإيمان الخالص بالله، وللهيام الشديد بالله، وللعبادة والتبتل.
وحينما نقرأ معاً صفات الإمام على لسان نجله الإمام محمد الباقر عليه السلام، نعرف ماذا تعني ولاية الله، وولاية أوليائه، ولماذا التأكيد عليها، وكيف كانت حياة السجاد شلال نور إلهي.
يقول الإمام محمد الباقر عليه السلام: كان علي بن الحسين عليهما السلام يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، كما كان يفعل أميرالمؤمنين عليه السلام. كانت له خمس مائة نخلة، فكان يصلي عند كل نخلة ركعتين، وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لون آخر، وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل؛ كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله عزَّ وجلَّ، وكان يصلي صلاة مودِّع يرى أنه لايصلي بعدها أبداً. ولقد صلَّى ذات يوم فسقط الرداء عن أحدى منكبيه، فلم يسوِّه حتى فرغ من صلاته. فسأله بعض أصحابه عن ذلك، فقال: ويحك أتدري بين يدي مَن كنت؟ إنَّ العبد لايُقبل من صلاته إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه. فقال الرجل: هلكنا. فقال: كلا؛ إن الله عزَّوجلَّ متمم ذلك بالنوافل. وكان عليه السلام لَيخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب على ظهره، وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربما حمل على ظهره الطعام أو الحطب، حتى يأتي باباً باباً فيقرعه، ثم يناول مَن يخرج إليه. وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً لئلا يعرفه. فلما توفي عليه السلام فقدوا ذلك، فعلموا أنه كان علي بن الحسين عليهما السلام. ولما وُضع عليه السلام على المغتسل نظروا إلى ظهره وعليه مثل رُكَبِ الإبل، مما كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين. ولقد خرج ذات يوم وعليه مطرف خز، فعرض له سائل فتعلّق بالمطرف فمضى وتركه، وكان يشتري الخزَّ في الشتاء، فإذا جاء الصيف باعه فتصدق بثمنه. ولقد نظر عليه السلام يوم عرفة إلى قوم يسألون الناس، فقال: ويحكم أغير الله تسألون في مثل هذا اليوم، إنّه ليُرجى في هذا اليوم لِمَا في بطون الحبالى أن يكون سعيداً. ولقد كان عليه السلام يأبى أن يؤاكل أُمَّه، فقيل له: يابن رسول الله أنت أبرُّ الناس وأوصلهم للرحم، فكيف لاتؤاكل أمَّك؟ فقال: إني أكره أن تسبق يدي إلى ما سبقت عينها إليه. ولقد قال له رجل: يابن رسول الله إني لأحبُّك في الله حبّاُ شديداً. فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أحبَّ فيك وأنت لي مبغض. ولقد حج على ناقة له عشرين حجة فما قرعها بسوط، فلما توفت أمر بدفنها لئلا تأكلها السباع. ولقد سئلت عنه مولاة له فقالت: أُطنب أو اختصر؟ فقيل لها: بل اختصري. فقالت: ما أتيته بطعام نهاراً قط، وما فرشت له فراشاً بليلٍ قط. ولقد انتهى ذات يوم إلى قوم يغتابونه فوقف عليهم، فقال لهم: إن كنتم صادقين فغفر الله لي، وإن كنتم كاذبين فغفر الله لكم. فكان عليه السلام إذا جاءه طالب علم فقال: مرحباً بوصيِّ رسول الله صلى الله عليه وآله. ثم يقول: إن طالب العلم إذا خرج من منزله لم يضع رجله على رطب ولايابس من الأرض، إلاّ سبَّحت له إلى الأرضين السابعة، ولقد كان يعول مائة أهل بيت من فقراء المدينة. وكان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى والأضرار والزّمنى والمساكين الذين لاحيلة لهم. وكان يناولهم بيده، ومن كان له منهم عيال حمل له إلى عياله من طعامه، وكان لايأكل طعاماً حتى يبدأ فيتصدق بمثله. ولقد كان تسقط منه كل سنة سبع ثفنات من مواضع سجوده لكثرة صلاته، وكان يجمعها، فلما مات دُفنت معه. ولقد كان بكى على أبيه الحسين عليه السلام عشرين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلاّ بكى، حتى قال له مولى له: يابن رسول الله أما آن لحُزنك أن ينقنضي؟ فقال له: ويحك، إن يعقوب النبيّ عليه السلام كان له اثني عشر ابناً، فغيَّب الله عنه واحداً منهم، فابيضَّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حيّاً في الدنيا وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني؟[10]
وقد زخرت كتب التاريخ بكرامات الإمام عليه السلام. ولا عجب فإن إماماً هذه صفاته، يكرمه الله بفضله، أولم يكرم الله عباده الصالحين باستجابة دعواتهم، وقد قال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (غافر،60).
فكيف لايستجيب لمن ذاب في حب ربه حتى خشي عليه الهلاك من شدة العبادة. ولننظر معاً في الرواية التالية ثم نقيسها بما نعرفه من قصص القرآن حول الصالحين من عبادالله، نرى أنهما نبعان من عين واحدة.
عن إبراهيم بن أدهم وفتح الموصلي، قال كل واحد منهما: كنت أسيح في البادية مع القافلة، فعرضت لي حاجة فتنحيت عن القافلة، فإذا أنا بصبي يمشي، فقلت: سبحان الله؛ بادية بيداء وصبي يمشي!
فدنوت منه وسلَّمت عليه، فردّ عليَّ السلام. فقلت له: إلى أين؟ قال: أريد بيت ربِّي. فقلت: حبيبي، إنك صغير ليس عليك فرض ولا سنَّة. فقال: يا شيخ ما رأيت من هو أصغر سنّاً مني مات؟ فقلت: أين الزاد والراحلة؟ فقال: زادي تقواي، وراحلتي رجلاي، وقصدي مولاي. فقلتُ: ما أرى شيئاً من الطعام معك؟ فقال: يا شيخ هل يستحسن أن يدعوك إنسان إلى دعوة فتحمل من بيتك الطعام؟ قلت: لا. قال: الذي دعاني إلى بيته هو يطعمني ويسقيني. فقلت: ارفع رجلك حتى تدرك. فقال: عليَّ الجهاد، وعليه البلاغ. أما سمعت قوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت،69).
قال: فبينما نحن كذلك إذ أقبل شاب حسن الوجه عليه ثياب بيض حسنة، فعانق الصبي وسلَّم عليه. فأقبلتُ على الشاب وقلت له: أسألك بالذي حسَّن خلقك مَن هذا الصبي؟ فقال: أما تعرفه؟ هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فتركت الشاب وأقبلت على الصبي، وقلت: أسألك بآبائك مَن هذا الشاب؟ فقال: أما تعرفه؟ هذا أخي الخضر، يأتينا كلَّ يوم فيسلِّم علينا. فقلت: أسألك بحق آبائك لما أخبرتني بما تجوز المفاوز بلا زاد؟ قال: بلى؛ أجوز بزاد، وزادي فيها أربعة أشياء. قلت: وما هي؟ قال: ارى الدنيا كلها بحذافيرها مملكة الله، وأرى الخلق كلهم عبيد الله وإماءه وعياله، وأرى الأسباب والأرزاق بيد الله، وأرى قضاء الله نافذاً في كل أرض الله. فقلت: نعم الزاد زادك يا زين العابدين، وأنت تجوز بها مفاوز الآخرة، فكيف مفاوز الدنيا؟[11]
ألم أقل لك إنه كان ومضة نور وشلاّل إيمان، وقبساً من وهج الرسالة؟
إن جذور شخصية الإمام زين العابدين عليه السلام تمتد في أفق معرفته بالله تعالى، ويقينه باليوم الآخر، ووعيه للسرعة الخاطفة التي تبتلع ساعات الليل والنهار من عمر البشر، وتزاحم الواجبات عليه.
حينما يسأله رجل كيف أصبحت يابن رسول الله؟ يقول: أصبحت مطلوباً بثمان: الله تعالى يطلبني بالفرائض، والنبي عليه السلام بالسنّة، والعيال بالقوت، والنفس بالشهوة، والشيطان باتِّباعه، والحافظان بصدق العمل، وملك الموت بالروح، والقبر بالجسد. فأنا بين هذه الخصال مطلوب.[12]
إنه كان مثلاً رائعاً للآية الكريم:

{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران،191).

لقد أحبّ الله حتى فاضت على شفاهه روافد الحب في صورة ابتهالات ومناجاة سجَّل التاريخ جزءاً بسيطاً جدّاً منها في صحيفته المعروفة بـ (السجادية) .. فلنستمع معاً إلى هذه الرائعة التي تبهر الأبصار:

«فقد انقطعتْ إليك هِمَّتي، وانصرفتْ نحوك رغبتي. فأنتَ لاغيرك مرادي، ولك لا لسواك سهري وسُهادي، ولقاؤك قرة عيني، ووصلك مُنَى نفسي، وإليك شوقي، وفي محبتك وَلَهي، وإلى هواك صبابتي، ورضاك بُغيتي، ورؤيتك حاجتي، وجوارك طلبي، وقربك غاية سؤلي، وفي مناجاتك رَوحي وراحتي، وعندك دواء علتي، وشفاء غُلتي، وبردُ لوعتي، وكشفُ كربتي. فكن أنيسي في وحشتي، ومُقيل عثرتي، وغافر زلتي، وقابل توبتي، ومجيب دعوتي، ووليّ عصمتي، ومغني فاقتي، ولا تقطعني عنك، ولاتبعدني منك، يانعيمي وجنتي، ويادنياي وآخرتي، يا أرحم الراحمين».[13]

فأيُّ قلبٍ مفعم بالإيمان هذا الذي يفيض بهذه الكلمات المضيئة؟ وأي فؤاد ملتهب بالشوق إلى الله، متيم بحب الله، يشع بهذه المناجاة؟ إنّّه قلب ذلك الإمام الذي كانت الصلاة أحب الأمور إليه، وكان الذكر شغله الشاغل والعبادة صبغة حياته.
وحينما نعرف جانباً من شخصية الإمام زين العابدين عليه السلام ومدى تفانيه في ذات الله عزّوجلَّ وذوبانه في تيار حبِّه سبحانه، وخلوصه من شوائب المصلحة المادية، نعرف -حينئذ- جانباً من حكمة الولاية، وذلك التأكيد الشديد عليها في نصوص الإسلام. فمثل ولاية الإمام السجاد تصلح نفس الإنسان وتتسامى في معارج الكمال، وإن ولاية الأنبياء والأوصياء تصبغ شخصية المجتمع المؤمن بصبغة الإيمان، وتيسر له العمل بتعاليم أولياء الله تعالى، والسعي وراء تمثيل شخصياتهم الإلهية، كما أن تلك الولاية تسقي روضة حب الله في أفئدتهم، وتصونها من الذبول، لأن حب أولياء الله يفيض من حب الله كما تفيض الروافد من نبعٍ زخّار، بل إن حب أولياء الله هو انبساط لحب الله، وأمثلة له وشواهد عليه!
وكيف يمكن أن يدَّعي أحد أنه يحب الله ثم لايحب من هام في حب الله حتى بلغ ما بلغه الإمام زين العابدين عليه السلام من العبادة والتهجد؟

أو لم يقل ربُّنا العزيز: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } (آل عمران،31).

فلنغترف من نبع حب الله فيضاً، وذلك بِحُبّ أوليائه أكثر مما مضى، حتى نطهِّر أفئدتنا من أهواء الدنيا ومن أدران حب أهلها اللئام.
 


[1] - نهج البلاغة، خطبة رقم 192.
[2] - نهج البلاغة، خطبة رقم 192.
[3] - نهج البلاغة، خطبة رقم 192.
[4] - المحاسن، الشيخ أحمد بن محمد البرقي، ج1، ص165.


            (ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ)
             )|ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ |(
            ( |  ~ {قرووب  البصيرة  الرسالية)  .  .  (للأخبار  والمواضيـع  الرسالية} ~  | )
             )|ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــ |(
            (
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ )


لمشاهدة والانضمام إلى قروب البصيرة الرسالية في الجيميل:

http://groups.google.com/group/albaseera


ملحق ذا فائدة:

* قروب "محبي الشيخ المجاهد نمر النمر" على الفيس بوك:
http://www.facebook.com/topic.php?topic=5902&post=19686&uid=36375794025#/group.php?gid=36375794025

* لمشاهدة قناة العلامة النمر على اليوتيوب
على هذا الرابط::
http://www.youtube.com/user/nwrass2009

*
لمشاهدة قناة العلامة النمر على الشيعة تيوب على هذا الرابط:
http://www.shiatube.net/NWRASS2009

* لتنزيل إصدار القبس الرسالي لسماحة الشيخ نمر والذي يحوي 1902 محاضرة:

http://www.4shared.com/dir/10157159/d7de52b5/sharing.html


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق