السلام عليكم ورحمة الله

نرحب بكم معنا في مدونة البصيرة الرسالية التي نحتفظ بنسخة من رسائلنا المرسلة على قروبنا (البصيرة الرسالية).

تنويه:-

1- من يرغب أن تصله رسائلنا على بريده ليشترك عبر هذا الرابط:

http://groups.google.com/group/albaseera/subscribe

وتأكيد اجراءات الاشتراك من الرابط.

2- لمشاهدة المواضيع السابقة تجدونها مفروزة على حسب أيام الإرسال وذلك من خيار: (أرشيف المدونة الإلكترونية) بالجانب الأيمن من الصفحة.

3- نظراً لطول بعض المواضيع هنا مما يجعل الصفحة طويلة للقارئ سنلجأ إلى وضع جزء من الموضوع وقراءتكم لباقي الموضوع في نهايته بالضغط على الزر الموجه في آخر الجزء المرفق.

ونأمل لكم الفائدة معنا..

20 مايو 2009

نص خطبتا الجمعة ‏(مجتمعاتنا بين إرادة التحدي وإرادة التراجع)‏ لسماحة الشيخ عباس السعيد_ ساهموا بنشرها معكم

روابط خطبتا الجمعة الصوتية وهما بتاريخ 19-5-1430 هـ:

الخطبة (1) مجتمعاتنا بين إرادة التحدي وإرادة التراجع
http://www.mediafire.com/?ih5m3nudmnm

الخطبة (2) موقفنا من عدالة الصحابة
http://www.mediafire.com/?wjmhm3d0yn0

كلاهما:
http://www.mediafire.com/?mnmhmcjjzq2


نص خطبتا الجمعة لسماحة الشيخ عباس السعيد ألقاهما في جامع الإمام الحسين (ع) العوامية-الزارة بتاريخ 19/5/1430 هـ

http://albaseera.googlegroups.com/web/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE+%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%B3+%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%8A%D8%AF.jpg?gda=DtzNHZIAAAAaEI6q13t3NKEponfgG5OxGJPek8C1R0MZm8Vkuf359v1cAlMdLc44-2X6aAYGN4_uLZ7wEnSYFUjnV5Waql_fikiJUDOEFfnc4Fx1sSa5Ysrj9pIQbdMpkiovaUaaedzTeR5-DzUnxmwIrKZRjqIIiI5NNWQo0NoPAGttB0mFaFXi7dpriIAjJhAipsb2do-CHqjxxwsG8_oKG53kozMh 
الخطبة الأولى: مجتمعاتنا بين إرادة التحدي وإرادة التراجع

صدر الخطبة
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإن التقوى هي الزاد الذي من خلاله يتمكن المجتمع من تحمل مسؤوليته إزاء الأحداث والتحديات، بل إن التقوى هي التي تبلور في المجتمع إرادة المواجهة لكافة الأزمات والتحديات، وانعدام التقوى هو الذي يجعل المجتمع يختار التراجع والانهزام.

وجود الأزمات والتحديات سنة اجتماعية تاريخية
إن جهود الأنبياء والأوصياء (ع) والمصلحين تستهدف تحقيق الأهداف الكبرى التي من أجلها أرسل الله الرسالات وأنزل الكتب، فالله سبحانه لم يرسل الرسل ولم يبعث الأنبياء إلا من أجل أهداف كبرى لا بد أن تحكم وتهيمن على حياة البشرية، وهذه الأهداف لا تتحقق إلا من خلال استجابة المجتمعات إلى هدى السماء، ومن هنا تنبع الحاجة الماسة والأهمية القصوى للتدبر والتأمل والوقوف عند هذه الأهداف، حتى تكون حاضرة في عقلية الأمة وفي سلوكها ومسيرتها.
فإذا كان بسط العدل وإقامة القسط وتحقيق الكرامة للإنسان هو من الأهداف الكبرى للأنبياء (ع) والتي من أجلها أنزل الله الكتب، فإن جهود العلماء والمساعي الاجتماعية لا بد أن تسير نحو المطالبة ببسط العدل وإقامة القسط وتحقيق الكرامة للإنسان، لا أن تكون الأهداف الرسالية في جهة، وحركة العلماء والمجتمع في جهة أخرى.
إن مسيرة الحياة تسير بخطوات ثابتة نحو تطبيق القيم الإلهية على الأرض، حتى يتحقق وعد الله باستخلاف المؤمنين على هذه الأرض، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[1].
ولكن الوعد الإلهي للبشرية لن يتحقق بدون ضريبة وبدون تكاليف يدفعها المؤمنون، بل إن كل خطوة تخطوها البشرية نحو الأهداف الكبرى لا تكون مجانية، وإنما لا بد لها من ضريبة، لا بد لها من تكاليف، لكن مشكلة الإنسان أنه غير مستعد لدفع هذه التكاليف، فحينما يأتي الوقت لدفع الضريبة دائماً ما يقول الإنسان: "خلي غيري يدفع الضريبة، خلي غيري يتحمل أعباء المسؤولية"، وهذا النمط من التفكير يشكل عقبة أمام الحركة الاجتماعية.
وحتى تتحرك مسيرة البشرية إلى الأمام، دائماً وأبداً ما تقدر الإرادة والحكمة الإلهية وجود الأنبياء والمصلحين الذين يأخذون بأيدي مجتمعاتهم إلى الأمام، إلا أن ذلك لا يكون إلا إذا استجابت مجتمعاتهم للحركة التي يقودها الأنبياء (ع) أو المصلحون من القيادات الرسالية، فحينما ترى بأن إنساناً يكاد أن يغرق، أنت تمد يدك إليه لتنقذه من الغرق، لكنك لا تستطيع أن تنتشله من غرقه إلا إذا مد يده إليك، وهكذا قد تكون المجتمعات على وشك الغرق في أمواج الظلم والاستبداد، والمصلحون لا يتمكنون من إنقاذ مجتمعاتهم من الغرق إلا إذا كانت هناك استجابة لحركة المصلحين.
لكن الوصول إلى الأهداف الكبرى التي تتطلع إليها المجتمعات لا يكون إلا من خلال مواجهة التحديات والأزمات، وهذه حقيقة واضحة في التاريخ نجدها من خلال سيرة الأنبياء (ع) المحكية في القرآن الكريم، كما نجدها من خلال سيرة الرسول الأعظم (ص) التي نقلها لنا المؤرخون، فالرسول الأعظم (ص) لم يستطع أن يحقق الأهداف الكبرى إلا بعد أن واجه الأزمات الشديدة مع مشركي قريش، فحينما اشتدت الأزمة مع مشركي قريش ووصل الأمر إلى التصفية الجسدية هاجر الرسول الأعظم (ص) وخرج من بيته ولم يمكِّن كفار قريش من النيل منه، وهكذا كان الحال مع بقية الأنبياء (ع).
فالوصول إلى الأهداف الكبرى لا يكون إلا بالأزمات، لا يكون إلا بطريق ذات الشوكة، وهذه سنة تاريخية واجتماعية، فالحياة في صراع دائم بين الحق والباطل، ونار هذا الصراع ستبقى مشتعلة، ولا تظن أن وجود الشر في هذه الحياة جاء عن غير حكمة، وأن وجود أصحاب الباطل يعبثون ويفسدون في الأرض خارج عن حكمة الله، بل إن ذلك من صميم حكمة الله، فالله سبحانه قادر على ألا يجعل للباطل أي صولة وأي جولة على أرضه، ولكن شاءت إرادة الله أن يمتحن عباده المؤمنين، يقول تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[2]، فكما أن ابتلاء الله للإنسان يتحقق من خلال وجود الخير، كذلك يتحقق من خلال وجود الشر.

مجتمعات التحدي ومجتمعات التراجع: قراءة مقارِنة
إذاً تحقيق الأهداف الكبرى التي تتطلع إليها المجتمعات لا يكون إلا بعد مواجهة الابتلاءات وخوض التحديات، التي فيها يفتتن المجتمع وتغربل رجالاته وتشحذ إرادته حتى يصبح المجتمع مؤهلاً لمواصلة مسيرته الحقة، ووجود الأزمات والابتلاءات هي سنة اجتماعية لا محيص عنها.
لكن لماذا نجد أن بعض المجتمعات تواجه الأزمات بإرادة التحدي، بينما تتراجع مجتمعات أخرى عن تحمل مسؤوليتها؟
إن شخصية المجتمع وبما يمتلكه من وعي وإيمان وإرادة هو الذي يحدد كيفية تعامل المجتمع مع الانعطافات والأزمات والتحديات، في بعض الأحيان قد تمر على بعض المجتمعات مجموعة من الابتلاءات والتحديات إلا أن شخصية المجتمع غير مؤهلة للتعامل مع الأحداث تعاملاً سليماً، ولهذا قد تدفع هذه الأزمات بعض المجتمعات إلى انتكاسات جديدة، وإلى مزيدٍ من التراجع.
فالمجتمع حينما تكون شخصيته شخصية ضعيفة لا يتمكن من الوقوف أمام ضغط العامل السياسي، أو ضغط العامل الاقتصادي الذي يمكن أن يستخدم لتركيع إرادة المجتمع.
أما حينما تكون شخصية المجتمع شخصية قوية، فإن هذا المجتمع سوف يتعامل مع الأزمات والتحديات التعامل السليم الذي يساعده على أن يتقدم وأن ينهض وأن يستجمع قواه من أجل الوصول إلى أهدافه، وذلك لما يمتلكه من وعي وإرادة وإقدام على مواجهة التحديات.
فالمجتمع الواعي حينما يمر بفتنة فإنه يستثمر هذه الفتنة لصالحه؛ لأن الفتنة والابتلاء والتحدي يصفِّي شخصية المجتمع من شوائب الضعف والجهل وغيرها من الشوائب التي يمكن أن تعلق بشخصية المجتمع، لا أن تكون هذه الفتنة بالنسبة إليه سبباً للانهزام والتراجع، بل إن المعنى اللغوي لكلمة الفتنة مقتبس من وضع الذهب في النار؛ لأن هذا المعدن يختلط بسائر المعادن، فلكي يصفى وتذهب عنه تلك الشوائب، فإنه يحتاج إلى الفتنة، فيا ترى ماذا تعني الفتنة بالنسبة إلى المجتمع؟ إنها تعني أنَّ في المجتمع خليطاً من رواسب الجهل والضعف والتخلف وحب الراحة وحب الشهوات، وهذا المجتمع لا بد أن يتعرض إلى الفتنة حتى يُصفَّى ويتخلص مما فيه من شوائب وسلبيات.
ولهذا يمكننا أن نقول بأن لدينا صنفين من المجتمعات، هناك مجتمعات التحدي التي تواجه الأزمات والتحديات، وهناك مجتمعات التراجع التي تتراجع وتنتكس إرادتها حينما تحين الأزمات والتحديات، ومجتمعات التحدي هي المجتمعات التي حافظت على شخصيتها الإنسانية ولم تضعف إرادتها بتراكم الضغوط السياسية والاقتصادية، أما مجتمعات التراجع هي التي تفقد إرادتها حينما تتراكم فيها عوامل الضعف وحينما تمارس عليها الضغوط.

متى تتحفز الإرادة الاجتماعية ومتى تنكمش؟
وهنا يأتي السؤال الهام والمحوري: متى تتحفز إرادة المجتمع، ومتى تنكمش وتتراجع؟ في الحقيقة إن تحدي الأزمات لا يكون إلا من خلال إرادة حقيقية تنبثق من صميم شخصية المجتمع، وكذلك الانهزام والتراجع لا يكون إلا من خلال إرادة اجتماعية نحو التراجع والانهزام.
ولو جئنا للموضوع على مستوى الأفراد، لماذا نجد بعض الأفراد يمتلكون إرادة التحدي للأزمات والمشاكل التي يواجهونها، بينما نجد أن هناك أفراداً آخرين يجنحون إلى الانهزام والتراجع، لا شك أن شخصية الفرد هي التي تقوده إما لمواجهة التحديات، وإما للتراجع عن المواجهة، أي أن حياة الفرد تسير بين إرادتين، بين إرادة التحدي ومواجهة الأزمات، وبين إرادة التراجع والانهزام.
وهكذا على مستوى المجتمع، هناك بعض المجتمعات تمتلك إرادة التحدي ومواجهة الأزمة، وشخصية المجتمع هي التي تشكل هذه الإرادة، وهناك مجتمعات تجنح إلى التراجع والانهزام، وشخصية المجتمع هي التي تشكل هذه الإرادة.
إن إرادة التحدي لها جنود، وإرادة التراجع لها جنود، إرادة التحدي من جنودها العلم تقوى الله، والإرادة والمسؤولية ورجاء اليوم الآخر، بينما إرادة التراجع من جنودها الجهل والتخلف وضعف الإيمان، وخور الإرادة وحب الراحة وحب الدنيا.

قراءة نفسية مجتمعات التحدي ومجتمعات التراجع: نماذج قرآنية
وحينما نرجع إلى القرآن الكريم نجد أن القرآن يكشف شخصية مجتمعات التحدي، كما يكشف شخصية مجتمعات التراجع والانهزام.

نماذج قرآنية لمجتمعات التراجع

النموذج القرآني الأول: المسلمون وطريق ذات الشوكة
يقول تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) حيث أنه قبل حرب بدر علم المسلمون بتحرك قافلة لقريش ومرورها قريباً من المدينة، وكان ذلك الحدث يمثل فرصة للمؤمنين للثأر من قريش، حيث حاصرتهم اقتصادياً ونهبت ثرواتهم، فهنا بادر المسلمون للخروج إما للقتال وإما للغنائم، وهكذا أخرج الله المؤمنين من بيوت الأمن، ودفعهم إلى الحرب بينما كان فريق منهم كارهين، وكراهتهم كانت بسبب عدم إيمانهم بالله، ولعدم وعيهم بالآثار الإيجابية المترتبة على هذه المواجهة.
 (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ) إن الدعوة إلى الإصلاح والأمر بالعدل وتحقيق الأهداف الكبرى التي تتطلع إليها المجتمعات حقٌ واضح يجب ألا يرتاب فيه أحد، لكن بعض الناس لا يعلمون ما يترتب على هذه الدعوات من نتائج إيجابية لصالح المجتمع، ولذلك تراهم يكرهون خوض التحديات والمواجهات، بل يظنون أن مواجهة التحديات تسوقهم إلى الموت المحتم.
 (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ) هنا تبين الآية القرآنية بأن المؤمنين حينما يخوضون التحديات من أجل الله ومن أجل تحقيق الأهداف الكبرى التي يتطلع إليها المجتمع، هم يقفون بين إحدى الحسنيين؛ إما نيل الأذية الجسدية في سبيل الله، والتي قد تصل إلى القتل والشهادة، وإما الانتصار والوصول إلى الأهداف الكبرى التي يتطلع إليها المؤمنون.
 (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) إن الإنسان بطبعه يبحث عن المكاسب الآنية والعاجلة، ولهذا ينأى بنفسه عن طريق ذات الشوكة، مع أن طريق ذات الشوكة هو أمرٌ لا بد منه من أجل تحقيق الأهداف الكبرى.
ولهذا (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ* لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [3]، فإرادة الله في إحقاق الحق واستئصال الباطل رغماً عن أنف المجرمين، لكن هذا الأمر لا يكون إلا من خلال خوض التحديات ومواجهة الأزمات.

النموذج القرآني الثاني: مجتمع بني إسرائيل يرفض القتال
إن مجتمع بني إسرائيل مرت عليه سنوات طويلة وهو يعاني الآلام والويلات من قبضة الاستكبار الفرعونية، وكان في مراحل زمنية متعددة غير مؤهل من الناحية النفسية ومن ناحية الوعي أن يواجه التحديات الكثيرة التي كانت تحدق به بفعل الفراعنة.
قال تعالى: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ)[4]، فكان بنو إسرائيل لا يمتلكون الإرادة والعزيمة الإيمانية التي تؤهلهم لمواجهة التحدي، ولذلك برروا ما فيهم من ضعف بهذه المقالة (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ).
ثم يقول الله تعالى على لسانهم في موضع آخر: (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)[5]، فبنو إسرائيل لم يكونوا مستعدين أن يتحملوا تبعات المواجهة، ولهذا جعلوا هذا الأمر مسؤولية القيادة الرسالية، فمنطقهم يقول أن القيادة الرسالية هي التي يجب أن تتحمل الضريبة وتدفع التكاليف .

النموذج القرآني الثالث: الملأ من بني إسرائيل يطلبون القتال ثم يتراجعون
قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فقد أُخرج بنو إسرائيل من ديارهم ظلماً وعدواناً، فطالبوا نبيهم بأن يختار الله لهم قائداً يحاربون أعداءهم تحت لوائه، (ولكن حين بعث الله لهم قائدا وجد الجد نكصوا على أعقابهم، إنهم مثل لعدم الإيمان الحقيقي وبالتالي فصل دين الله عن الحياة، و فصل الدين عن السياسة و رجال الله عن أمور الدنيا، إن الدين الذي يريده الله هو دين الحياة، وأن الإيمان الذي يطالب به العباد، هو الإيمان بالله المدبر للكون، المطاع بلا شريك في الحياة، وهذا الإيمان كان مفقودا عند هذه الطائفة لذلك فشلوا في الامتحان.
فحينما طالب بنو إسرائيل نبيهم بأن يعين لهم قائداً أراد نبيهم أن يقيم الحجة عليهم؛ لأنه كان يعرف إيمانهم الضحل، فقال لهم: (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)، فصاروا يظهرون أنهم على أهب الاستعداد لخوض التحديات، ولكن حينما يجد الجد ظهروا على حقيقتهم (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)[6].
وهؤلاء يمثلون فريقاً من الناس يؤمنون بالله إيماناً ظاهراً و سطحياً، فإذا محصوا بالبلاء كفروا بالله، إذ أنهم - منذ البداية - كانوا يزعمون أن الله محصور في المسجد وبعض الصلوات والابتهالات، وبعض التعاليم الأخلاقية، أما الله الذي يأمر بالقتال، وبطاعة رجال معينين لا يملكون كفاءة القيادة حسب تصورهم الباطل.. فإنهم يكفرون به[7].

النموذج القرآني الرابع: المؤمنون والتثاقل إلى الأرض
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ)، هذه الآية القرآنية تشير إلى عامل مؤثر، من العوامل التي تجعل المجتمع يختار التراجع والانهزام عن مواجهة التحديات والأزمات، وهو التثاقل إلى الأرض، المجتمع الإيماني إذا كان يتطلع بصدق إلى تحقيق الأهداف الكبرى -تحقيق العدالة والكرامة والحياة الطيبة- سوف يتعامل مع التحديات والأزمات تعاملاً مسؤولاً، إما إذا كان المجتمع هدفه الراحة والمتعة في الحياة، فلا شك أنه سيتثاقل عن أداء مسؤوليته، (أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ).
 (إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) وحينما يترك المجتمع الإيماني مسؤوليته الرسالية ويتراجع عن مواجهة التحديات، فإنه لن ينال الراحة التي كان ينشدها، وإنما سوف يذوق العذاب والامتهان والإذلال في الدنيا، قبل جزاء الله في الآخرة.
 (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[8]، فإذا لم تتحمل بعض الفئات الاجتماعية مسؤوليتها في مواجهة التحديات لن تضر الله شيئاً، وإنما هي التي سوف تتضرر حينما تخسر شرف تحمل المسؤولية، بل أن الله سبحانه سوف يأتي بقومٍ يتحملون مسؤوليتهم في الدفاع عن قيم الرسالة.

نموذج قرآني لمجتمعات التحدي: السحرة وإرهاب فرعون
وهكذا حينما نراجع القرآن الكريم نجد أنه يكشف للمؤمنين كثيراً من النماذج المشرقة التي تحملت مسؤولية مواجهة التحديات، بل وواجهت أقسى صور الطغيان والاستبداد.
يقول تعالى: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى* قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى)، فالسحرة كانوا يمتلكون إرادة التحدي للنظام الفرعوني، وإرادة التحدي لها جنود، ما هي تلك الجنود؟
 (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا)، فوعيهم بالحقائق الكبرى وأن هذه الحياة ليست نهاية المطاف هو الذي دفعهم إلى التحدي، (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[9]، فإيمانهم الذي كان إيماناً حقيقياً، هو الذي دفعهم إلى هذه المواجهة وخوض هذا التحدي مع فرعون!

الأمة الإسلامية بين إرادة التحدي وإرادة التراجع
وأخيراً حينما ننظر إلى الأمة الإسلامية، هل أن الأمة الإسلامية تمتلك إرادة التحدي، أم أنها تمتلك إرادة التراجع؟
بعض الدول الإسلامية مع أن قوى الاستكبار والشر قد تراكمت عليها من كل حدب وصوب ومارست عليها كافة صور الضغط السياسي والدبلوماسي والاقتصادي، ولكنها فشلت في أن تقتل إرادة التحدي المتوقدة في داخلها، وهكذا تجد بعض مجتمعات الأمة الإسلامية تعيش تحديات سياسية وأمنية واقتصادية وهي تواجه هذه التحديات بصلابة وتحدي.

وهذا ما يبرهن أنه لا توجد حتمية سياسية أو اقتصادية، وإنما تأثير كل هذه العوامل يتوقف على شخصية المجتمع؛ فإذا كانت شخصية المجتمع شخصية ثابتة ومتماسكة سوف تتمكن من الوقوف أمام كل الضغوط، أما إذا كانت شخصية المجتمع متزلزلة لا تقوم على أسس قوية فسوف تسقط في بداية المشوار.
ولهذا فإنه في الوقت الذي تجد أن مجتمعات كثيرة تعيش ألواناُ كثيرة من التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية، وهي تواجه هذه التحديات بصلابة وتحدي، تجد بعض الفئات الاجتماعية في مجتمعاتنا لا تستجيب للتحديات التي تواجهها، وكأنها تعيش في عالم آخر غير هذا العالم.
إن مجتمعات التحدي هي التي تكاملت فيها عناصر القوى وتعاضدت فيها أسباب النجاح، ومجتمعات الانهزام هي التي تراكمت عليها عوامل الضعف فاستولى عليها اليأس والشعور بالعجز فسلمت إرادتها للطامعين وأصحاب المصالح.
ولهذا إذا أرادت مجتمعاتنا أن تمتلك إرادة التحدي لا بد لها أن تسعى في تحقيق عوامل القوى في داخلها، وهنا لا بد من التأكيد على مجموعة من الأمور:

الأمر الأول: الوعي بالتحديات
لا بد أن تمتلك المجتمعات الوعي بالتحديات التي تحدق بها من كل حدب وصوب، وأن تمتلك الوعي الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي يؤهلها لاستيعاب حجم التحديات التي تمر بها، وفي هذا العصر، لم تعد كثير من الحقائق محجوبة عن الناس، فوسائل الاتصالات فتحت المجال للمجتمعات للوصول إلى كثير من الحقائق.
والمجتمع حينما تمر به الأزمات والتحديات، فهذه المرحلة هي من أفضل المراحل الزمنية لبث الوعي بالتحديات، فإذا كان التحدي يرتبط بكرامة المجتمع ينبغي أن نبث الوعي بالكرامة وبحقوق الإنسان المضيعة.
بل لا بد أن تعي مجتمعاتنا الآثار الإيجابية للأزمات والابتلاءات التي تواجهها، فالابتلاءات والتحديات التي تمر بها المجتمعات هي حالة إيجابية ومطلوبة؛ لأنها تستخرج كفاءات المجتمع، ولهذا لا بد لكل مجتمع من المجتمع أن يتعامل مع التحديات بمسؤولية، بل إن المجتمعات التي لا تستجيب للتحديات هي مجتمعات متخلفة ومتبلدة الإحساس.
وكما جاء في الحديث: (من تساوى يوماه فهو مغبون)، وهكذا المجتمع الذي تتساوى أحواله، يتساوى أمسه ويومه، وترى بأن العالم كله في حركة وتقدم، هذا المجتمع مغبون، ويجب أن يشعر بالغبن لأن واقعه خلاف بقية المجتمعات وبقية المناطق.

الأمر الثاني: اتجاه الحركة الاجتماعية نحو الأهداف الكبرى
لا بد أن تكون حركة المجتمع باتجاه تحقيق الأهداف الكبرى التي يتطلع إليها؛ لأنه بدون الحركة لن يتمكن المجتمع من الوصول إلى أهدافه وتطلعاته.
نسال الله سبحانه أن يوفق المؤمنين والمؤمنات لذلك، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، بسم الله الرحمن الرحيم، قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.

الخطبة الثانية: موقفنا من الصحابة

صدر الخطبة:
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإن التقوى هي زاد الإنسان الذي يوصله إلى الرضوان الإلهي، وتقوى الله ليست بالأمر الهين أبداً، وإنما لا بد للإنسان أن يكون في صراعٍ دائم للأهواء والشهوات والنفس الأمارة بالسوء حتى يتقي الله سبحانه.
لا يزال تاريخ الأمة الإسلامية يلقي بظلاله وآثاره على أوضاعنا الراهنة، وهذه حالة طبيعية، إلا أن المشكلة تبدأ حينما تؤجَّج النعرات والعصبيات والأحقاد باسم الدين، ومن أجل الاختلاف في بعض المسائل التاريخية، فمع أن الأمة الإسلامية هي في حاجة ماسة إلى رص الصفوف تجد بأنه لا تزال فرقة شاذة متطرفة تسعى من أجل تفتيت جسد الأمة الإسلامية بإثارة النعرات الطائفية.
ولا يزال رأي الشيعة الإمامية في قضية عدالة الصحابة يُستخدم كسلاح سياسي يُرفع كلما دعت الحاجة إليه، فكلما أرادت بعض الجهات الضغط على الشيعة وإقصائهم أثارت زوبعة عدالة الصحابة على الشيعة، وكان من الحري بهم بدلاً من إثارة هذه الزوبعة على الشيعة أن يلجأوا إلى سبيل الحوار والكلمة، فمذهب الإمامية لم يُبنَ إلا على الدليل والقوة العلمية.

عدالة الصحابة عند أهل السنة
اتفقت كلمة أهل السنة على أن جميع الصحابة عدول، ويجب الاعتقاد بنزاهتهم، إذ ثبت أن الجميع من أهل الجنة وأنه لا يدخل احد منهم النار[10]، والمقصود بالصحابة كل الصحابة بلا استثناء، ونظرية عدالة الصحابة تعني أن كل من عاصر الرسول (ص) لا يجوز نقده وتجريحه مهما كانت أفعاله.
البعض يتصور بأن القول بعدالة كل الصحابة لا تترتب عليه كثيراً من الأمور العملية، وإنما هو مجرد رأي متعلق بالمجتمع الإسلامي الذي عاصر رسول الله (ص)، لكن نحن حينما ندقق في القضية، نجد بأن هذا القول تترتب عليه آثاراً كبيرة، وأهم هذه الآثار هو الأخذ بروايات كل الأصحاب لكونهم من العدول حتى وإن كانت هذه الروايات تجرح في أمير المؤمنين علي (ع)، وفي أهل البيت (ع)، أو كانت تمدح وتثني على عبد الرحمن بن ملجم، أو إلى كل من تعرض بالسب والشتم والأذى لأهل البيت (ع)، بل إن نظرية عدالة الصحابة وُضعت في قبال عصمة أهل البيت -عليهم السلام- ومرجعيتهم الدينية، وهذه حقيقة واقعية يصدقها الواقع العملي؛ لأنه بعد القول بعدالة الصحابة صار يجب على الإنسان أن يقبل بروايات أي صحابي من الأصحاب وحينها لا تبقى حاجة لمرجعية أهل البيت -عليهم السلام-.
ثم إنَّ هذه النظرية لم تكن موجودة في الصدر الأول من الإسلام، بل نشأت وتطورت في حقب زمنية متأخرة عن ذلك، فلم يكن لهذه النظرية أي حضور في عقلية الصحابة الذين يمثلون الصدر الأول للإسلام، فلا ترى أن أحداً من الصحابة في يوم من الأيام قد استشهد بهذه النظرية، ولا تجد الصحابة أنفسهم كانوا يتصرفون بين بعضهم البعض على ضوء هذا المبدأ وهذه النظرية، بل على العكس فقد حدثت حوادث قد كذَّب الصحابة فيها بعضهم البعض،وسبَّ الصحابة بعضهم البعض، واتهم الصحابة بعضهم البعض، وقاتل بعضهم البعض، وقتل بعضهم البعض الآخر، هذا كله يفضي إلى أن نظرية عدالة الصحابة لم تنشأ إلا في وقت متأخر ولأغراض سياسية.

موقف الشيعة من نظرية عدالة الصحابة
والشيعة في موقفهم من عدالة الصحابة ساروا على منهج أهل البيت -عليهم السلام- الذين جعلهم الله سبحانه فرقاناً بين الحق والباطل، أهل البيت عليهم السلام جعلوا الحق فقط هو المعيار الأوحد في تقييم الرجال، فالمعيار في العدالة وعدم العدالة ليس هو الصحبة، وإنما واقع تطبيق الإنسان لمفردات الإسلام هي التي تثبت عدالته أو تنقض عدالته.

بل إننا حينما نقول (عدالة الصحابة) فما هو مفهوم هذه العدالة؟

إن العدالة هي حقيقة وملكة روحية لا بد أن تتوفر في الإنسان، وهي لا تعطى لأحد بناء على صحبته، حتى وإن صاحب أفضل الأنبياء وأعظم الرسل، بل إن الحق أن أصحاب الأنبياء (ع) جميعاً لم يكونوا متصفين بصفة العدالة بشكل مطلق، بل كان فيهم المؤمن والفاسق، والبِّر والفاجر، وفيهم من ثبت على الإيمان ومنهم من نكص على عقبيه، فهذا القرآن الكريم يحكي لنا وبإسهاب قضية السامري، وكيف أن بني إسرائيل ارتدوا إلى الكفر في ظرف أربعين يوماً، وهي المدة التي كان فيها نبي الله موسى (ع) يناجي ربه، مع وجود نبي الله هارون (ع) ، فصحبة بني إسرائيل لنبي الله موسى (ع) سنين طوال، ومع ما رأوه من المعاجز الواضحات على يد نبي الله موسى (ع) لم تحقق لهم عصمةً من الشرك فضلاً عن بقية الذنوب الكبيرة.
فصحبة الأنبياء ليس لها تأثيراً كيميائياً يُحوّل الإنسان من إنسانٍ عادي إلى إنسان خارق العدالة، نعم صحبة الأنبياء والعظماء لها تأثيرها البالغ على النفوس، ولكن تأثيرها ليس تأثيراً حتمياً، وإنما هو متوقف على قابلية الإنسان وإرادته في قبول الحق والعمل معه.
والقرآن الكريم حينما يحكي لنا هذه القصة وأمثالها من قصص الأنبياء مع أصحابهم، فهو لا يحكيها من أجل التسلية، وإنما من أجل التدبر وأخذ العظة والعبرة.
ولهذا فإن الإمامية يرون بأن العدالة لا تعطى جزافاً، وإنما هي واقع وسلوك لا بد أن يتجسد على الأرض، وهذا المبدأ أشار له القرآن الكريم حتى مع أعظم الخلق، وهو الرسول الأعظم (ص) حينما يقول تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)[11]، فرسول الله (ص) وإن كان يمتنع عليه التقول على الله من الناحية العملية، إلا أن الآية القرآنية تؤكد أن مقامه عند الله متوقف على استقامته في التبليغ وعدم المخالفة، ولهذا يأتي الخطاب الإلهي لرسوله (ص): (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[12].
ولهذا فإن الشيعة الإمامية لا يعظمون علياً ويقدسونه لأنه صحب النبي (ص) فقط، أو تربى في بيته حتى، أو لأنه زوج فاطمة وأبو الحسنين، وإنما لأنه علي، علي الإيمان، علي الزهد، علي العلم، علي الجهاد، علي التضحية، علي الإيثار، علي الإخلاص، وإنما لأنه قَبِل الحق وتحمّل تطبيقه في واقعه، فكانت سيرته تجسيداً حقيقياً لمبادئ الوحي.
وقول الشيعة في قضية عدالة الصحابة لم يستند إلى العصبيات، وإنما استند على الأدلة التي يقبلها أهل السنة، قبل أن يستدلوا عليهم برواياتهم.
حيث روى البخاري عن سهل بن سعد، أنّه قال: قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): (إني فرطكم على الحوض، من مرّ علَيَّ شرب، ومن شرب منه لم يظمأ أبداً، ليردنّ علَيَّ أقوام أعـرفهم ويعـرفوني، ثمّ يحـال بـيني وبـينهم)، وزاد أبو سعيد الخدري: فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول: (سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي)[13].
وأهل السنة دائماً ما يستدلون بقوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)[14]، ويتغافلون بأن استمرار رضا الله سبحانه متوقف على أن الإنسان لا يبدل ولا يغير منهجه، بالإضافة إلى أن هذه الآية لا تعم كل الصحابة، بل قد يقال بأنها خاصة بالصادقين منهم، ولهذا تؤكد الآيات القرآنية بأن استمرار رضا الله سبحانه مشروط باستقامتهم وعدم نكثهم وعدم مخالفتهم لولاية الرسول (ص)، حيث يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[15]
ويقول تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)[16]

أهل السنة تنقض عدالة الصحابة من وجوه
حينما تؤمن طائفة معينة بعدالة الصحابة لا بد أن تطبق ما تؤمن به من معايير بموضوعية تامة، لا أن تحابي بعض الشخصيات على حساب شخصيات أخرى، وهنا نذكر بعض النقاط:

أولاً: إن مشهور علماء السنة أن الصحابي الجليل أبو طالب مات كافراً، وأنه يأتي يوم القيامة في ضحضاح من نار، وحاشاه، أما الشيعة الإمامية فيعتبرونه من أعاظم الأصحاب، لما بذله من جهاد في حماية الرسول الأعظم (ص)، إذ كان كمؤمن آل فرعون يكتم إيمانه لاقتضاء المصلحة لذلك.
ولكن هنا نتساءل: لماذا يصر علماء أهل السنة باستماتة كبيرة في تكفير أبي طالب والد أمير المؤمنين (ع) وكافل رسول الله (ص)، مع أن كتب التاريخ مليئة بالأدلة والوثائق التي تدلل على إيمانه؟ فلماذا يكون هناك الامتعاض والاستياء الذي يصل إلى درجة التكفير لأجل موقف الشيعة في بعض الصحابة، بينما لا يحق للشيعة أن يرفعوا ذات الراية على من يكفر أبا طالب (ع)؟ بل إنك لا تجد من علماء الشيعة من كفر أحداً من المسلمين لأنه يكفر أبا طالب (ع)، أو لأنه يخالفه في قضية عقدية معينة.

ثانياً: الإمام الحسين (ع) حينما خرج على يزيد ذلك الرجل الفاسق، بشهادة المؤرخين وعلماء المسلمين، يأتي من يقول أن خروج الإمام الحسين (ع) قد تسبب في إراقة الدماء وأنه خرج على إمام زمانه وأنه قد غرر به، وما شابه من تلك الكلمات الحاقدة، لكننا في المقابل لا نسمع هذا الكلام عمّن خرج على أمير المؤمنين (ع)، ذلك الإمام الذي انتخب بإرادة اجتماعية وانتخاب جماهيري لا مثيل له في تاريخ الأمة، ولم يأتِ إلى السلطة عبر السيف والقوة والقهر والغلبة، بل إن رسول الله (ص) قد قال في أمير المؤمنين (ع): (حربك يا علي حربي)، فكل من حارب علياً هو بمثابة من حارب رسول الله (ص).

ثالثاُ: ولعل بعضهم يقول بأن الصحابة على درجة من الفضل والمكانة التي تجعلهم محصنين مقدسين، فلا يجوز النظر في أفعالهم وسلبياتهم، نحن نقول بأنه إذا كانت هذه القداسة ثابتة لهم، وأنهم محصنين فلا يجوز نقد أفعالهم فلماذا لا نطبق هذه المقالة على الصحابة أنفسهم، ألم يلعن بعض الصحابة البعض الآخر، بل ووصل الأمر إلى درجة التقاتل فيما بينهم؟!

الإرث الفكري المتطرف سبب تكفير المسلمين
وحينما نراجع تاريخ المسلمين نجد أن المسلمين منذ القرون الأولى اختلفوا في تقييم الصحابة، لكننا لم نسمع بأنهم كانوا يكفرون بعضهم لأنهم اختلفوا في التقييم، ولكن التعصب والجاهلية هو الذي يقود بعض من يتسمون بالعلم وليسوا أهل لذلك إلى أن يكفروا طائفة كبيرة من المسلمين.
بل ورد أن الرسول الأعظم (ص) قال: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، فالذي يسب أحداً من المسلمين ما خلا النبي -صلى الله عليه وآله- وأهل بيته -عليهم السلام- يدخل في دائرة الفسق، ولا يدخل في دائرة الكفر ولكن العصبية العمياء تعمي القلوب والعقول.
ومع الأسف نحن حينما نراجع الإرث الفكري الموجود عند إخواننا أهل السنة في قضية عدالة الصحابة بالذات، نجد أن التطرف في هذه القضية قد نشأ من هناك.
 حيث جاء في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر: (إذا رأيت الرجل ينقص أحداً من أصحاب رسول الله فاعلم انه زنديق، والذين ينقصون أحداً على الإطلاق من أصحاب رسول الله هم زنادقة والجرح أولى بهم)[17] ،بل جاء في كتاب الكبائر للحافظ الذهبي: (ومن عابهم أو انتقصهم فلا تؤاكلوه ولا تشاربوه ولا تصلوا عليه)[18]، فالتطرف إزاء هذه القضية ليس أمراً جديداُ، وتقديس أصحاب هذا الفكر المتطرف هو أحد أسباب المأساة التي تزال الأمة تعاني منها.


[1] سورة النور، 55
[2] سورة الأنبياء، 35
[3] سورة الأنفال، 5-8
[4] سورة المائدة، 22
[5] سورة المائدة، 24
[6] سورة البقرة، 246
[7] المرجع المدرسي، من هدى القرآن، ج1، سورة البقرة.
[8] سورة التوبة، 38-39
[9] سورة طه، 70-73
[10] راجع الإصابة في تمييز الصحابة ص9-10
[11] سورة الحاقة، 44-47
[12] سورة هود، 112
[13] صحيح البخاري 8 / 216 ح 164، وانظر: فتح الباري 11 / 567 ح 6583.
[14] سورة الفتح، 18
[15] سورة الفتح، 10
[16] سورة آل عمران، 144
[17] راجع الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني، ص17-18
[18] راجع الكبائر للحافظ الذهبي، ص238




            (ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ)
             )|ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ |(
            ( |  ~ {قرووب  البصيرة  الرسالية)  .  .  (للأخبار  والمواضيـع  الرسالية} ~  | )
             )|ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــ |(
            (
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ )


لمشاهدة والانضمام إلى قروب البصيرة الرسالية في الجيميل:

http://groups.google.com/group/albaseera


ملحق ذا فائدة:

* قروب "محبي الشيخ المجاهد نمر النمر" على الفيس بوك:
http://www.facebook.com/topic.php?topic=5902&post=19686&uid=36375794025#/group.php?gid=36375794025

* لمشاهدة قناة العلامة النمر على اليوتيوب
على هذا الرابط::
http://www.youtube.com/user/nwrass2009

*
لمشاهدة قناة العلامة النمر على الشيعة تيوب على هذا الرابط:
http://www.shiatube.net/NWRASS2009

* لتنزيل إصدار القبس الرسالي لسماحة الشيخ نمر والذي يحوي 1902 محاضرة:

http://www.4shared.com/dir/10157159/d7de52b5/sharing.html


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق