أيها الأحرار
لكم حقوق مشروعة
آن الأوان لرفع
سقف مطالبكم بها

بقلم
العلامة الحجة الشيخ نمر باقر النمر
لا ريب أن لكل مَنْ يعيش على بقعة من بقاع الأرض حقوقاً عامة،
وحقوقاً خاصة، متنوعة ومتعددة بتنوع وتعدد العناوين التي يتعنون بها الإنسان؛
وهكذا لكل طائفة دينية، ولكل فئة اجتماعية، ولكل جماعة معنونة بعنوان خاص بها؛
حقوق عامة تشمل الجميع، وحقوق خاصة بها؛ وهكذا تتنوع وتتعدد الحقوق بتعدد العناوين
الطائفية أو الفئوية أو الفردية؛ ولا ضير في ذلك، ولا يوجد إشكال شرعي إلهي، ولا
إشكال قانوني بشري يمنع تلك الحقوق، والعادة والغالب لا تكون الحقوق الخاصة بطائفة
أو فئة أو جماعة إلا فتات من فتات حقوقهم الإنسانية العامة.
وأنتم أيها الأحرار من كل الفئات والطوائف والجماعات
والتجمعات لكم حقوق مشروعة دينياً وإنسانياً؛ وقد آن الأوان لرفع سقف مطالبكم بها؛
ولكن المطالبة بالحقوق العامة العليا هي التي ستحقق حقوقكم العامة الكبرى فضلاً عن
حقوقكم الخاصة الصغرى.
ولكن في البدء لا بدَّ من بيان الرأي الصائب، والرؤية الثاقبة
في المطالب الفئوية الخاصة بالفئة أو الطائفة أو الجماعة؛ بعيداً عن المطالب
العامة التي تشمل كل الفئات والطوائف والجماعات؛ والتي هي أعلى وأكبر من المطالب
الخاصة التي هي أدنى وأصغر؛ كمطالب الشيعة بحقوقهم الخاصة بهم، كبناء الحسينيات
مثلاً، ومطالبة المرأة بحقوق المرأة الخاصة بها، كقيادة السيارة مثلاً، ومطالب
السُّنَّة الخاصة بهم، كهدم القبور ودرس الآثار مثلاً. فهل هذه المطالب الفئوية
الخاصة مطالب مشروعة؟ أم هي مطالب تفريق وتمزيق للمجتمع؟ فليس من الصحيح وليست من
المصلحة المطالبة بها. والجواب الشافي هو أنه لكل فرد من الأفراد، ولكلٍّ من فئة
من الفئات، ولكل جماعة من الجماعات، ولكل طائفة من الطوائف حق المطالبة بحقوقهم؛
بل قد يجب عليهم المطالبة بها في بعض الأحيان؛ وبالخصوص حينما تكون عالية السقف،
بل قد تكون هي أوجب من الحقوق العامة المسطحة التي لا سنام لها، ولا يحق لأحدٍ أن
يلوم أو يدين المظلوم الذي سُلِبَ حقُّه فسعى للمطالبة بحقه خاصة، وإنما يجب إدانة
الظالم الباغي الذي سلب الحق الخاص بهذا الفرد أو بهذه الفئة. يقول الله تبارك
وتعالى: ﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ
فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ
يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ
لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
بلى إن مشروعية المطالبة بالمَطالِب الخاصة تتوقف على أمرين
ضروريين وهما:
1. أن يصدق على المُطالَب به أنه حق من حقوقهم. فمتى ما كان
المُطالَب به هو حقٌّ ثابتٌ جاز بل قد يجب لصاحبه أن يطالب به، أما المطالبة
بمَطالِب ليست هي من الحقوق الثابتة للمُطالِب فلا تجوز؛ لأن المطالبة بها هي
عدوان على الغير، وتطفيف في الميزان.
2. أن لا يكون استرداد الحقوق الفئوية أو الشخصية فيه
تعدٍّ على حقوق الفئات الأخرى، أو على حقوق الأفراد الآخرين، أو على الحقوق
العامة؛ ولو بشكل غير مباشر؛ حيث يتخذها الطاغي وسيلة لتعزيز استحواذه على السلطة،
وغطاء لسلب ومصادرة الحقوق العامة، أو حقوق الفئات الأخرى، أو حقوق الأفراد
الآخرين؛ لأن الطاغي مستعدٌّ، بل هو يفعل ذلك، وهو الواقع؛ حيث يعطي الطاغي بعض
الفئات وبعض الأفراد كامل حقوقهم أو بعضها أو أكثر منها؛ ليتخذهم جنداً ينتصر بهم،
وأعواناً يركن إليهم، أو ليقطع ألسنتهم، ويجمد حركتهم، ويفصلهم عن النسيج الشعبي
المستضعَف فيزيده ضَعفاً على ضَعف. فهذا معاوية يسعى جاهداً لكسب سودة بنت عمارة،
ويأمر بإنصافها، والعدل عليها، وإعطائها حقها، ولكن دون حق قومها؛ فرفضت واعتبرت
رضاها وقبولها بحقها دون حق قومها فاحشة ولؤم.
"قال عامر الشعبي: وفدت سودة بنت عمارة بن الأشتر
الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان، فاستأذنت عليه، فأذن لها، فلما دخلت عليه
سلمت، فردّ عليها السلام، ثم قال لها: كيف أنت يا ابنة الأشتر؟
قالت: بخير.
فقال لها: هيه يا بنت الأشتر ألست القائلة لأخيك يوم صفين:
شمِّر كفعلِ أبيك يا بن
عمارة *** يومَ الطعان وملتقى الأقران
وانصر علياً والحسينَ
ورهطَه *** واقصد لهند وابنها بهوان
إن الإمامَ أخو النبي
محمد *** علمُ الهدى ومنارة الإيمان
فقِدَّ الجيوش وسر أمام
لوائه *** قدماً بأبيض صارم وسنان
قالت: إي والله؛ وما مثلي مَنْ رغب عن الحق، ولا اعتذر
بالكذب.
فقال لها: ما حملك على ذلك؟
قالت: حبُّ عليٍّ، وإتباع الحق.
قال: فوالله ما أرى عليك من أثرِ عليِّ شيئاً.
قالت: مات الرأس وبتر الذنب، فدع عنك تذكار ما قد نسي، وإعادة
ما مضى.
قال: هيهات، ليس مثل مقام أخيك ينسى، ولا لقيت من أحدٍ ما
لقيت من قومك وأخيك.
قالت: صدق فوك، والله ما كان أخي خفي المقام، ذليل المكان،
ولكن كما قالت الخنساء:
وإن صخراً لتأتمُّ الهداة
به *** كأنه علم في رأسه نار
وبالله أسألك إعفائي مما استعفيت منه.
قال: قد فعلت. فقولي ما حاجتك؟
قالت: إنك أصبحت للناس سيداً، ولأمورهم متقلداً، والله سائلك
عن أمرنا وما افترض عليك من حقنا، ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك، ويبطش
بسلطانك، فيحصدنا حصاد السنابل، ويدوسنا دياس البقر، ويسومنا الخسيسة، ويسلبنا
الجليلة، هذا ابن أرطأة قدم بلادي، فقتل رجالي، وأخذ مالي، ولولا الطاعة لكان فينا
عزٌّ ومنعة، فإما عزلته عنَّا فشكرناك، وإلا لا، فعرفناك.
فقال معاوية: أتهدديني بقومك؟ والله قد هممت أن أردك إليه على
قتب أشرس، - وهو المائل المعوج - وأحملك إليه، فينفذ حكمه فيك، فسكتت، وأطرقت، ثم
بكت، ثم رفعت رأسها لتقول:
صلى الإله على روحٍ
تضمنها *** قبرٌ فأصبح فيه العدلُ مدفوناً
قد حالف الحق لا يبغي به
بدلاً *** فصار بالحق والإيمان مقروناً
قال معاوية: ومن ذلك؟
قالت: علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى.
قال: وما علمك بذلك؟ وما صنع بك حتى صار عندك كذلك؟
قالت: بلى، قدمت عليه يوماً لأشكو إليه رجلاً ولَّاه صدقاتنا،
فكان بيننا وبينه ما بين الغث والسمين، فوجدته قائماً يصلي، فلما نظر إلي انفتل من
صلاته، ثم قال لي برأفة وتعطف: ألك حاجة؟ فأخبرته خبر الرجل، فبكى ثم رفع يديه إلى
السماء، فقال: اللهم أنت الشاهد عليَّ وعليهم، اللهم إني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا
بترك حقك. ثم أخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجراب، فكتب فيها: بِسْمِ اللّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ
مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ). (بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ
تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ). إذا قرأت كتابي
هذا فاحتفظ بما في يديك من عملنا، حتى يقدم عليك من يقبضه منك، والسلام.
فعزله وأخذت الكتاب منه، وما خزمه بخزام، ولا ختمه بختام.
فقال معاوية: اكتبوا لها بالإنصاف لها، والعدل عليها.
فقالت: إليَّ خاصة؟ أم لقومي عامة؟
قال: وما أنت وغيرك؟
قالت: هي - والله - إذن الفحشاء واللؤم إن لم يكن عدلاً
شاملاً. فإن كان عدلاً شاملاً وإلا يسعني ما يسع قومي.
قال معاوية: هيهات! لقد لمَّظكم ابن أبي طالب الجرأة على
السلطان، فبطيئاً ما تفطمون، وغركم قوله:
فلو كنتُ بواباً على باب
جنة *** لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
وقوله:
ناديتُ همدان والأبوابُ
مغلقة *** ومثلُ همدان سنّى فتحة الباب
كالهنداونّي لم تفلل
مضاربُهُ *** وجهٌ جميل وقلبٌ غيرُ وجّاب
ثم قال: اكتبوا لها ولقومها بحاجتها. "
إن المطالبة بالحقوق الأساسية الكبرى، والحقوق العامة العليا،
والحقوق الرئيسية الشاملة؛ هي التي تُعَبِّد الطريق لاسترداد جميع الحقوق الخاصة
صغيرها وكبيرها، وضيعها وعظيمها؛ لأن الله جعل للإنسان - بعيداً عن عنصره وعقيدته
وموطنه وجميع تعنوناته - حقوقاً عظيمة لا يمكن أن تعدّ أو تحصى تفصيلاً أو
تفريعاً؛ لأنها تتسع بسعة الزمان والمكان والظروف الموضوعية والشخصية، وهكذا تتسع
بسعة التغيرات والتحولات، ولكن مع كل هذه السعة المتزايدة يمكن أن تحصى إجمالاً
وتأصيلاً؛ فالكرامة والعدالة والحرية والأمن والرفاه حقوق ضرورية للحياة الطيبة
التي لا يمكن بل يستحيل أن تتحقق الحياة الطيبة إلا بها، وهذه الحقوق تتسع وتزداد
آناً بعد آن، ولا يمكن حصرُ مفرداتها الفرعية، ولكن يمكن تعداد وإحصاء وإجمال
أصولها التي تجمع كل تفريعات وتفصيلات فروعها؛ التي يمكن للفقيه الشرعي والقانوني
أن يستنبط ويستخرج من هذه الأصول كثيراً من فروعِ وتفصيلاتِ الكرامة والعدالة
والحرية والأمن والرفاه؛ التي تلبي تطلعات وحاجيات ومتطلبات بل وكماليات الإنسان
الفرد والمجتمع والأمة والبشرية؛ الزمانية والمكانية والموضوعية والشخصية
بتغيراتها وتحولاتها.
إن حق الكرامة هو الحق الأسمى؛ لأنه هو الحق الجامع والشامل
لكل الحقوق الإنسانية من العدالة والحرية والأمن والرفاه، ولا قيمة لإنسانية
الإنسان وحياته إلا بالكرامة. وأي فعلٍ يهان به الإنسان أو يؤدي إلى إهانته هو
انتهاك واستنقاص لكرامة الإنسان، وتعدٍّ عليها. وهكذا أي انتهاك لحق من حقوق
الإنسان ولو كان حقاً صغيراً وهامشياً أيضاً هو انتهاك واستنقاص لكرامة الإنسان،
وتعدٍّ عليها.
ثم يأتي حق العدالة الذي يجسد التطبيق العملي لحق الكرامة.
والاعتداء على أي حق من حقوق الإنسان - ولو كان صغيراً جداً، بل ولو كان أصغر
الحقوق - هو ظلمٌ للإنسان، وجورٌ عليه، ونقيضٌ للعدالة، ومضادٌّ لها، وبالتالي هو
انتهاكٌ واستنقاصٌ لكرامة الإنسان، وتعدٍّ عليها.
ثم يأتي حق الحرية الشاملة لجميع أبعاد الحياة ومجالاتها؛ بدء
من الحرية السياسية، مروراً بالحرية الفكرية، وبقية الحريات، وختاماً بالحرية
الشخصية. والاعتداء على أي مفردة من مفردات الحرية هو تعدٍّ على كل أبعاد ومجالات
الحرية، وبالتالي هو سلب وتغييب للعدالة والقسط، وهو انتهاكٌ واستنقاصٌ لكرامة
الإنسان، وتعدٍّ عليها.
ثم يأتي حق الأمن الخاص والعام والشامل لجميع المجالات
الحياتية النفسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسياسية وغيرها. والاعتداء
على الإنسان بل إن التهديد ولو بملامح الوجه فضلاً عن الترهيب اللفظي، والاعتداء
الجسدي؛ هو اعتداء على الإنسان وإنسانيته، وهو سلب لأمنه حيث لا يمكن أن يعيش
الإنسان مطمئناً بدون ضمان الأمن الخاص والعام والشامل، وبالتالي هو تضييق وكبت
لحرية الإنسان، وظلم وجور عليه، وهو انتهاكٌ واستنقاصٌ لكرامة الإنسان، وتعدٍّ
عليها.
ثم يأتي بعد ذلك حق الرفاه الذي يُمَكِّنُ الإنسان من الحياة
الكريمة الهادئة المستقرة ببركة قوة البنية التحتية للبلاد، وتطور وسعة وإمكانية
وسهولة التعليم، وتنوع وتعدد فرص الحياة المهنية، والمكنة المادية التي تؤمن له
ضروريات الحياة النفسية والجسدية والذهنية والروحية من تكوين الأسرة الكريمة،
والمسكن الواسع، والمأكل الهنيء، والمشرب السائغ، والملبس الحرير، وبقية مستلزمات
الحياة، ورغد المعيشة. والاعتداء على رفاه الإنسان يسلب منه الأمن، ويجعله أسيراً
إلى من يحتاج إليه، ويحرمه من العدالة، فيعيش مظلوماً مضطهداً، وتداس كرامته في كل
حين.
فالكرامة هي الأرضية الخصبة للعدالة، والعدالة هي القاعدة
التي تتأصل وتقوم عليها الحرية، والحرية هي الأركان والأعمدة التي يعتمد عليها
جدران وسقف الأمن، والأمن هو الحواشي والكسوة التي تزخرف وتلون الرفاه وتسد
الفراغات. فالكرامة هي شجرة طيبة؛ جذرها العدالة، وجذعها الحرية، وأغصانها الأمن،
وثمرتها الرفاه الشامل الذي يحقق الحياة الطيبة.
إن سياسة السلطات الطاغية دائما ما ترتكز وتقوم على مصادرة حق
الكلمة الحرة؛ من أجل تغييب الإنسان الفرد والمجتمع والأمة عن الحياة؛ وهذا
التغييب للإنسان هو الذي يُمَكِّنُها من الاستمرار في تسلطها واتخاذها العباد
خولاً والأموال دولاً، كما يُمَكِّنُها من استحكام احتكارها للسلطة والمال.
وتعتمد السلطات الطاغية لبقائها في الحكم والتسلط جاثمة على
صدور المجتمع على صنع وإيجاد أهداف وهمية، أو إشغال الناس في دائرة فتات الفتات من
الحقوق، أو دوامة شكلية الأهداف والحقوق؛ بدلاً من استحضار الأهداف الحقيقية،
والحقوق الأساسية، وبدلاً من التطلع لِلُبَّ اللباب من الأهداف والحقوق، وبدلاً من
السعي لجوهر الأهداف والحقوق؛ ولذلك تعبث ببوصلة الأهداف والحقوق وتوجهّما كيفما
تخدم بقاءها في السلطة والتسلط؛ ومن خلال العبث ببوصلة الأهداف والحقوق تتمكن من
العبث بالإنسان الفرد والمجتمع والأمة، كما تتمكن من فرض وبقاء هيمنتها وتسلطها
واستعبادها لهم؛ فحينما تكون الأهداف الكبرى والعليا للسُّنَّة وشغلهم الشاغل هو
السعي لهدم القبور وتدمير الآثار، والهدف الشاغل للمرأة هو التطلع لقيادة السيارة،
وأهداف الشيعة التي يتطلعون لتحقيقها هي بناء الحسينيات ورفع الأعلام السوداء،
والأهداف التي يتطلع إليها عموم المجتمع وينشغل بها هي الأسهم المالية، والشهرة
الرياضية، والمتعة اللهوية، والعبودية للبطن والفرج، وغيرها من الأهدافٌ الوهمية
أو القشرية أو السطحية؛ حينئذٍ تُغيَّب أو تُحَجَّم الأهداف الإنسانية الحقيقة من
الكرامة والعدالة والحرية؛ لتحل مكانها الأوهام أو التخاريف من الأهداف الصورية.
ولذلك ما أن يسمع الطغاة صوتاً يصدع بالكرامة، أو يَزْأر
بالعدالة، أو يُزَمْجِر بالحرية؛ إلا وتبادر مسرعة باعتقال الأحرار والأباة؛
لتسطيح الحراك السياسي، وتحجيم العمل المطلبي، وتضييع السعي الحقوقي، وإخراج كل
ذلك وإبعادها عن عمقها الحقيقي، وإشغال أهله وإيهامهم بالصَّدَف بدلاً من نور
اللؤلؤ؛ وبذلك تتمكن من تغييب الأهداف، وتضييع الحقوق، وتحجيم المطالب؛ وبالتالي
استهلاك جهود الناس وتطلعاتهم، وإحرافهم وإشغالهم عن أهدافهم وحقوقهم ومطالبهم إلى
المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين؛ وهو حق، بل واجب؛ ولكن لا يجوز أن تختزل الأهداف،
وتستهلك الجهود فيه؛ لأن المعتقلين لم يعتقلوا إلا لأنهم نطقوا بالحق، فرفضوا
الاستعباد، وقاوموا الظلم، ودافعوا عن الحرمات الإنسانية، فنشروا شراع الحرية،
وأمروا بالعدل، ولم يرتضوا عن الكرامة بدلاً؛ فلم تعتقلهم السلطات الطاغية إلا
لإخراس الأصوات الأبية، وكم الأفواه الناطقة، واستهلاك جهد وتطلعات المتطلعين
للكرامة، والآمرين بالعدل، والمطالبين بالحرية، وإحرافهم وإشغالهم بفتات الحقوق عن
لبها، ومن ثم اعتقاد الساعين لإطلاق سراح المعتقلين بأنهم أنجزوا وحققوا هدفاً
كبيراً وعظيماً؛ حينما يُفرِّج الطاغي عن معتقل الرأي والسجين السياسي، فيكتفوا به
عن بقية الأهداف الحقيقية، والحقوق العليا، والمطالب المشروعة، ويتوقفوا عن الحراك
السياسي، ويتراجعوا عن العمل الحقوقي، ويتلكؤوا في السعي المطلبي. والحال أنه لم
يكن هدف الطغاة من اعتقال الآمرين بالعدل والناطقين بالحق إلا اتخاذهم رهائن تقايض
بهم المجتمع أهدافه الحقيقية؛ فلم يكن هدف الطاغي من اعتقال الأحرار إلا تحجيم
الأهداف الكبرى الحقيقية؛ لتغييب هدف الكرامة والعدالة والحرية، وتكميم الأفواه
الأبية، وتبكيم الأصوات الحرة، والصدّ عن الحراك الاجتماعي السياسي، وتعطيل العمل
المطلبي العام، وإيقاف السعي الحقوقي الشامل. ولن تتوانى السلطات الطاغية في
الاعتقال والتعذيب بل القتل لأصحاب الرأي الحر والآمرين بالقسط. يقول الله تبارك
وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ
اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ
يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
نعم إن السعي والحشد لإجبار السلطة الطاغية على إطلاق معتقلي
الرأي السياسي والفكري حق لا يجوز إسقاطه، بل واجب لا يجوز إهماله، ولا يجوز
للمجتمع خذلان الآمرين بالعدل، المجاهرين بالرأي السياسي الرشيد، والرؤية الفكرية
الثاقبة، ويجب على المجتمع الحشد والسعي والتضحية من أجل فك قيودهم، وإطلاق
سراحهم، وإخراجهم من غياهب السجون، وهو جهد مبارك يُشكَر الساعون إليه، والذين
يسعون لذلك هم الذين استجابوا لربّهم، وهم أهل الشورى، وسعيهم تجسيدٌ لقول الله
تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ
الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ). ولكنه مع كل ذلك ليس هو الهدف من الحراك
السياسي، والعمل المطلبي، والسعي الحقوقي.
والمجتمع الرشيد هو الذي يتخذ من المطالبة بالإفراج عن
المعتقلين السياسيين بوابة للانطلاق إلى الآفاق السياسية الرحبة، والتنوعات
المطلبية المشروعة، والأصول الحقوقية العليا، وتنشيط أبنائه للحراك السياسي
والمطلبي والحقوقي، ورفع سقف مطالبه وحقوقه، والجهر بالرأي على الملأ، والنطق بصوتٍ
مرتفع، والحديث بلغةٍ عالية، والكلام بلسانٍ أعلى.
والمجتمع الرشيد هو الذي يتطلع ويسعى لبناء قدرته التي تمنع
الطغاة من اعتقال أصحاب الرأي الثاقب، والموقف السديد. والمجتمع الرشيد هو الذي
يَسلب المكنة من الطاغي على الاعتقال.
والمجتمع الرشيد هو الذي يتطلع ويسعى لتحرير الرأي المعتقل من
جبت الخوف الذاتي أولاً، ومن زنقة " السكة الضيقة " التفكير
الاجتماعي بكل أطيافه وفئاته ثانياً، ومن غياهب سجون الاستبداد الطاغوتي ثالثاً.
فإذا تحرر الرأي من جبت الخوف؛ هنالك سيتمكن من التحرر من
زنقة التفكير الاجتماعي. وإذا تحرر من زنقة التفكير الاجتماعي؛ سيتمكن من التحرر
من غياهب سجون الاستبداد الطاغوتي؛ وهنالك:
1. لن يتمكن الطاغي من اعتقال أصحاب الرأي الحر، والفكر
المستنير.
2. ومن ثم سيتألق صفاء الرأي الثاقب وأصحابه إلى مدارج
السمو والكمال.
3. ويسمو نعيم الفكر الرشيد وأهله إلى:
ألف: التوليد المستمر والمتنامي لجموح الأفكار الراقية
والمبدعة.
باء: الإبداع الدائم والمتجدد للنظريات الخلاقة واليقينية.
جيم: العمل التقدمي والريادي للنهوض الاجتماعي المتنامي،
والبناء الحضاري الشامخ الذي يحلق بجناح العقل الإنساني، وجناح الوحي السماوي؛ إلى
قماقم الحياة والوجود، وإلى حيث تزكو البلاد والعباد طهارة وسموّاً في جميع الأمور
الحياتية، والمجالات الحيوية، والأبعاد الاجتماعية، والشؤون الإنسانية.
لقد آن الأوان للمرأة والسُّنَّة والشيعة والمجتمع أجمع أن
يخرجوا من ضيق الأفق، ومحدودية الحقوق، وشكلية الأهداف، ويرفعوا سقف مطالبهم
بالحقوق المشروعة لهم، ويرتقوا بمطالب سامية، وحقوق عليا عامة وشاملة؛ التي تتكفل
بتحقيق كل المطالب الخاصة فضلاً عن الأهداف البسيطة والحقوق الصغيرة.
وليسعَ الجميع، وليجاهد الكل لتحرير الرأي المعتقل من زنزانة
الذات، وسجن المجتمع، وغياهب الطاغوت.
وليكن الرأي السياسي المعتقل هو الأجدر والأحق بالتحرير
أولاً؛ لأنه سيد المفاتيح الذي ستفتح به أقفال جميع الزنازين، وكافة العنابر، وكل
الغياهب المظلمة بالاستبداد والتعذيب والطغيان.
إن الحرية السياسية هي أقصر السبل وأقومها لكل الأهداف والحقوق
الكبرى والعليا، والصغرى والدنيا. وكل حق دون الحرية السياسية ترقيعٌ لن يزيد
الشرخ إلا اتساعاً وبعداً؛ إلا إذا كان رافداً للحرية السياسية، بل هو تخديرٌ
مُمِيتٌ للروح، وقاتلٌ للأهداف والتطلعات؛ إلا إذا كان سُلَّماً يُرْتَقى به إلى
الحرية السياسية.
إن الحرية السياسية هي البحر الموَّاج الذي يغذي أنهار
الحريات الفكرية والاقتصادية والشخصية بماء الحياة. والحرية السياسية هي الطوفان
الذي يجرف أعتى أنواع الاستكبار والاستبداد والفساد والطغيان والجور والعدوان.
إن الحرية السياسية هي الميزان الدقيق، والمقياس الحاذق،
والمنظار الشفاف الذي يقرأ من خلالها جميع أنواع الحريات. فبقدر ما يحقق المجتمع
من حرية سياسية سيتمكن من تحقيق حرية فكرية واقتصادية وشخصية بقدرها. وبقدر ما
يحقق المجتمع من حرية فكرية سيتمكن من تحقيق حرية اقتصادية وشخصية بقدرها. وبقدر
ما يحقق المجتمع من حرية اقتصادية سيتمكن من تحقيق حرية شخصية بقدرها. يقول الإمام
علي عليه السلام: (أحسن إلى مَنْ شئت تكن أميره،
واحتج إلى مَنْ شئت تكن أسيره، واستغنِ عمَّنْ شئت تكن نظيره) .
ولن تكون هناك حرية سياسية في ظل الظروف المعاصرة إلا عبر
الآليات التالية:
1. المدافعة لتحرير الرأي المعتقل. وهذا الحق يؤخذ ولا يعطى؛
ولن يعطى للمترددين فضلاً عن المتقاعسين فضلاً عن الجبناء والمنهزمين. وهذا الحق
يأخذه الناطقون به، ويسترده الصادعون به، ويتوشحه المضحون من أجله.
2. القيام بالاعتصام والتظاهر السلمي ومن دون إجازة النظام؛
للتعبير عن الرأي والجهر به بصوتٍ عالٍ ومسموع، ولمعارضة الفساد السياسي
والاقتصادي والإداري، وللاحتجاج على استغلال السلطة والمنصب الرسمي.
3. تكوين الأمة الطلائعية؛ ابتداءً بتشكيل المنظمات الطلابية،
مروراً بتشكيل الجمعيات الأهلية، والتجمعات الفكرية، والنقابات المهنية، وغيرها من
التشكيلات الاجتماعية المنظمة، وختاماً بتشكيل الأحزاب السياسية التي تراقب حركة
البوصلة السياسية وتشارك في توجيهها. ولا بدَّ من تشكيل تجمعات متعددة ومتنوعة
لتدعيم ورفد الأمة الطلائعية والأحزاب السياسية.
4. انتخاب حقيقي وحرٌّ ونزيه لمجلس نيابي يمثل المجتمع وينوب
عنه في تحديد وصياغة وتطوير بنود العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين الحاكم
والمحكوم، كما ينظم العلاقة فيما بين فئات وأفراد المجتمع، وبالتالي يكون المجلس
هو الذي ينتخب رأس السلطة التفيذية، ويزكي بقية أعضائها؛ ليكونوا وكلاء عن
المجتمع، ومن ثم يكون المجلس بعد ذلك رقيباً على السلطة التنفيذية، ومحاسباً لها،
وله المكنة من إقالة أي مسؤول في السلطة التنفيذية، بحجب التزكية عنه، وإلغاء
وكالته عن المجتمع.
5. الحاكمية والسلطة للحق الذي أتفق عليه واختاره وسوَّط عليه
المجتمع ودوَّنه في القرطاس، وليس للمزاج والهوى والشهوة التي في الرأس.
وأي مطلب دون المجلس النيابي المنتخب من قبل المجتمع، والذي
له صلاحية التقنين والسلطة على السلطة التنفيذية؛ سيكون مطلباً قائماً على عقدٍ
متزلزل غير ثابت، ولا ولن يضمن له البقاء ولا الاستمرار، وبالتالي ستكون كل قواعده
رجراجة، وسيذهب في مهب الريح، ويزول في أول عاصفة لشهوة السلطان، أو هوى الطغيان.
إن الذي يهبط بمطالبه المشروعة إلى دركات الحدِّ الأدنى فما
دون؛ لن يتمكن من الصعود إلى الدرجات العليا في مطالبه، ولن يحصل إلا على الدون
مما طلب، بل سيتهاوى في مطالبه إلى دركات أسفل مما يطلب.
إن من لا يتطلع إلى المعالي، ولا يصبر على المسير في طريق ذات
الشوكة، ويستبدل الذي هو أدنى من حقوقه الدنيا أو الشكلية أو الوهمية؛ بالذي هو
خير من الأهداف العليا والجوهرية والحقيقية من الكرامة الإنسانية الكاملة،
والعدالة العامة، والحرية الشاملة؛ لن يستحق أكثر من ما طلب، بل سيطوق بالذل
والجمود، ولن يرجع إلا بالغضب الإلهي بدلاً من نفحات الرحمة التي تصاحب حناجر
وأنفاس المؤمنين، وسواعد وأقدام المجاهدين، وعلوم ومعارف القادة الربانيين. قال
تبارك وتعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن
نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا
تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا
قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ
مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ
وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ
يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ
ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ).
(ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ)
)|ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ |(
( | ~ {قرووب البصيرة الرسالية) . . (للأخبار والمواضيـع الرسالية} ~ | )
)|ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ |(
(ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ )
لمشاهدة والانضمام إلى قروب البصيرة الرسالية في الجيميل:
http://groups.google.com/group/albaseera
لقراءة المواضيع السابقة التي نشرت في قروب البصيرة:

http://albaseeraalresalay.blogspot.com/
ملحق ذا فائدة:
* قروب "محبي الشيخ المجاهد نمر النمر" على الفيس بوك:
http://www.facebook.com/topic.php?topic=5902&post=19686&uid=36375794025#/group.php?gid=36375794025
* لمشاهدة قناة العلامة النمر على اليوتيوب على هذا الرابط::
http://www.youtube.com/user/nwrass2009
* لمشاهدة قناة العلامة النمر على الشيعة تيوب على هذا الرابط:
http://www.shiatube.net/NWRASS2009
* لتنزيل إصدار القبس الرسالي لسماحة الشيخ نمر والذي يحوي 1902 محاضرة:
http://www.4shared.com/dir/10157159/d7de52b5/sharing.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق