تحوّلات السلفية السعودية
(1)
صراع السياسة
في ساحة العقيدة: السلطة والمشايخ ومستلزمات النساء
فؤاد
ابراهيم (*)

بمثابة مارد غير موجّه، انطلقت السلفية بأشكالها المتعددة في
ظل ربيع عربي بلغ سخاءه حد فتح الباب على مصراعيه أمام التنافس الحر والكسب
السياسي المشروع وغير المشروع..
وعلى النقيض من ضدّها النوعي، تنساق السلفية إلى الربيع
العربي بكرم من جانب واحد، وسيكون نضوب الكرم دليلاً إضافياً عمّا لو ابتلعها
الربيع العربي الذي يتنافر مع العقل السلفي ولا يعبر عن هويته، ولا تطلعه. فقد
اعتادت السلفية الجهادية، كتظهير عملاني للسلفية التقليدية، صوغ المجتمع المضاد
الذي يؤسس ليوتوبيا الدولة الدينية، ولكن في الربيع العربي قبلت السلفية الحركية
الإذعان، طوعاً أو كرهاً، لنموذج الدولة المدنية (بحمولتها
الديموقراطية/العلمانية).
وعلى طريقة سارتر في تحليل جدلية العلاقة بين المادية
والثورة، فإن الإختلاف بين السلفية والربيع العربي يعكس الاختلاف بين ذكائهما،
باعتبارهما فعلين عقليين، وهذا صحيح، لكنه يشي، في الوقت نفسه، بمدى قدرة كل منهما
على الانفتاح على الآخر، أو بالأحرى استغلال كل منهما للآخر.
فالسلفية السياسية المحاصرة بنصوص غابرة ومغلقة، تسعى إلى وضع
نهاية حاسمة للتردّد في التماهي مع الواقع، لكن دون التحرر من الموروث النقلي،
الذي تعكسه فتاوى السلفية المحافظة النابذة لكل أشكال التفاعل مع المتغيّر
السياسي، مهما بلغت فرصه الاستثمارية الناجحة.
ليس من تكهّنات على انفراط عقد السلفية الذي كان موحّداً في
عهد سالف، لكن ثمة اختبارات صعبة خاضها السلفيون بكل أطيافهم، حفّزت «جينات»
التباين الفطري بين الآدميين، وأفضت إلى انفصال مجموعات سلفية جديدة عن المنظومة
الأم، فراحت تبشّر بأشكال سلفية متباينة حيناً ومتضاربة حيناً آخر. وكلما طال أمد
الانتقال وعصر التحوّل أنجبت المنظومات الأيديولوجية كيانات فرعية قد تحمل في
الظاهر السمات الوراثية للعقيدة الأم، لكن بسبب انغلاق النص وصرامته يصبح الانحياز
قيد أنملة عن المركز ضياعاً وضلالاً مبيناً. ويبرز حينئذ السؤال التقليدي بنبرته
اليائسة: هل يعتبر بلوغ بعض السلفيين أهدافهم مبرراً لتخريب السلفية الأصلية؟
بإمكان المرء أن ينتمي في عدّة مجموعات ومنظّمات في وقت واحد، إلا حين يكون عضواً
في جماعة أيديولوجية (كاشتراكي ورأسمالي)، أو طبقة اجتماعية معينة (كغني وفقير)،
فحينئذ يصبح إغلاق شبكة المشاعر ضرورة وجودية. وينسحب الحال على التشقّقات داخل
المنظومة الواحدة، كأن يكون سلفياً محافظاً وسلفياً حركياً في وقت واحد!
السلفية في السعودية تمثّل مصدر المشروعية الدينية للنظام،
وفي الوقت نفسه أيديولوجية السيطرة إلى جانب الجهازين الأمني والعسكري، ولذلك، فإن
تأكيد ملوك السعودية منذ عبد العزيز، المؤسس، وصولاً إلى الملك عبد الله على سلفية
الدولة السعودية يعني في حدّه الأول أن أيديولوجيا الطبقة المسيطرة هي
الأيديولوجيا السائدة، لأنه بواسطتها يتم، بحسب راكيتوف في (أسس الفلسفة): (إقحام
الآراء والتقويمات والأفكار والتصورات التي تبرز وتعزّز هذه السيطرة في وعي
الطبقات الأخرى. فمن دون امتلاك وعي الجماهير وبالاعتماد على القوّة المسلّحة
والبيروقراطية فحسب، ما كان بإمكان أي طبقة مسيرة أن تحتفظ بالسلطة).
* بيريسترويكا طائشة
في الظاهر، قد تبدو السلفية كما لو أنها تشهد بيريسترويكا
طائشة، مع كسوف المرجعية السعودية للعقيدة السلفية، في ظل ميولات متنامية نحو
تحفيز بعد «حركي» أو «سياسي» للمجموعات السلفية المراهقة سياسياً. هناك من يحمّل
تيار الصحوة الذي تشكّل في تسعينيات القرن الماضي، عقب احتلال الكويت في آب
(أغسطس) 1990 وزر «نزع رداء القداسة» عن «كبار العلماء» في السعودية، منذ طوّر
مشايخ الصحوة مفاهيم في الحركية السلفية لناحية (إعادة أسلمة الدولة) السعودية،
متجاوزين تقنيات التناصح بين العلماء والأمراء، ما اعتبره كبار العلماء خرقاً
للمحرم السلطاني السلفي، وتجاوزاً لمرجعيتهم.
على السطح، يبدو ثمة صراع أجنحة متصاعد، تمثّل السلفية مادة
تجاذب رئيسة فيه، وإن كان التجاذب مفتوحاً على أفق أوسع مما قد يتخيّل المرء.
وسنحاول هنا الإضاءة على محطّات في هذا الصراع في محاولة لاسكتشاف المديات
المحتملة لتقلّبات السلفية محلياً وخارجياً. وسنبدأ بفرضية مدى زمني قريب لصراع الأجنحة،
دون إغفال ذيوله السالفة، تكون فيه حقوق المرأة الاجتماعية والسياسية موضوع
التجاذب الظاهري بين الجناحين الحاكمين في السعودية: جناح الملك عبد الله، والجناح
السديري الذي يقوده حالياً ولي العهد ووزير الداخلية الأمير نايف.
فقد أصدر الملك عبد الله في 24 إيلول (سبتمبر) من العام
الماضي قراراً بمشاركة المرأة (في مجلس الشورى عضواً، اعتباراً من الدورة
القادمة..) وشمل ذلك مجالس البلدية، نصف المنتخبة. ورغم أن هذه المجالس لا تمثّل
في الميزان الديموقراطي ثقلاً لافتاً يعبأ به، ولم يحظ القرار بترحيب المعنيات، أي
النساء، دون سواهن، لكن هي بالنسبة للحليفين المتساندين: الأمراء والعلماء (قضية
جوهرية) وللمتضرر (فاجعة) دينية، في الظاهر على الأقل.
* شيخ ضد الملك؟
في رد فعل على القرار، انبرى أحد علماء الدين المقرّب من
الجناح السديري، الشيخ صالح اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق وعضو هيئة
كبار العلماء حالياً، ليطلق موقفاً لاهباً ضد قرار الملك، يستبطن نزع الأهلية عن
الأخير. اللحيدان خرق التابو السلفي في توجيه النصيحة لولي الأمر، وبدلاً من
الامتثال لمبدأ (نصيحة السر)، بحسب الأدبيات السلطانية السلفية، جهر بنقده لقرار
الملك على شاشة التلفزيون. ولفت اللحيدان في برنامج (الجواب الكافي) الذي تبثّه
قناة (المجد) الفضائية السلفية في 30 أيلول (سبتمبر) الماضي إلى أن الملك ما كان
عليه استشارة أحد في موضوع المرأة وإلا يكون (ليس أهلاً للولاية). وقال (بالنسبة
لي كان بودي أن الملك لم يقل انه شاور هيئة كبار العلماء أو بعضهم، كان بودي أنه
لم يذكر أحداً..)، وقال انه عضو في الهيئة، بل أقدم أعضائها إلى جانب عبد الله
المنيع، ولم يستشره الملك، ووجّه كلاماً للملك (على ولي الأمر ان يتقي الله في من
يختاره وأن يتقي الله في الجمهور يحرص على حماية عرضه..)، وأوضح (ولي الأمر
المحدود الولاية إذا ارتكب أمراً ليس في الشرع تحريم له يلتمس له فيه العذر أما
المحرّمات فلا يؤذن لأحد).
في الظاهر، تبدو مجاهرة اللحيدان بالرأي على علاقة برد اعتبار
فردي، وقد تفشي صورة السلطة الشمولية الذي يحملها لموقع ولي الأمر، صاحب السلطة
المطلقة في صنع السياسات والقرارات المصيرية والعامة، خصوصاً حين يحسب عودة الحاكم
إلى الشعب طلباً للمشورة نقطة وهن وتفريط في مبدأ ولاية الأمر، ولكن علاوة على كل
ما يحتمله كلام اللحيدان من أبعاد، فإن مجرد البوح به يحمل دلالة ما هامة.
ردّ جناح الملك عبد الله على موقف اللحيدان، في تصريحات لوزير
العدل، وعضو هيئة كبار العلماء، محمد العيسى في 2 أكتوبر الماضي وقال ان (غالبية
هيئة كبار العلماء، إضافة إلى علماء كبار وقياديين في الأوساط الشرعية باركوا
مشاركوا المرأة في الشورى عضواً وبالمجالس البلدية مرشحة لنفسها ومرشحة لغيرها).
* سجالات سخيفة.. وحاسمة
تساجُل قد يبدو سخيفاً، وهو كذلك، وقد يكشف عن السفح الذي
يبلغه الصراع بين الجناحين الحاكمين، لكن ما هو مغزى أن يكسر الجناحان قواعد
اللعبة، (مناصحة السر)؟
وتيرة التساجل بين الجناحين تسارعت بصورة مفاجئة، بفعل حدثين
على مستوى السفح نفسه: الأول، ندوة (السلفية منهج شرعي ومطلب وطني) التي أقيمت في
جامعة الإمام محمد بن سعود في 27 كانون الأول الماضي برعاية الأمير نايف. والثاني،
تطبيق قرار «تأنيث» محال (المسلتزمات النسائية) في 5 كانون الثاني الجاري، بعد
مرور أكثر من ست سنوات على صدوره.
في الحدث الأول، جرى اجترار مقولة سابقة للأمير نايف حول
تمسّك المملكة السعودية بالنهج السلفي. لكن توقيت الندوة في ظل إعادة تموضعات،
وانزياحات عاجلة، ومراجعات مفاجئة داخل المجال السلفي العام، قد اضفى عليها
تفسيرات عديدة، ربما أقحم بعضها عامل المؤامرة كالقول بمخطط قطري لاختطاف السلفية
ونقل مركز الجاذبية الوهابيّة من الرياض إلى الدوحة، بذريعة التقاء الجذر القبلي
للعائلة الحاكمة في قطر وعائلة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أي بني تميم.
قد تتلخص المهمة الرئيسة للندوة في إعادة تعريف السلفية
بوصفها (عقيدة) وليست (حزباً سياسياً)، في ظل الميول السياسية المتفجّرة للجماعات
السلفيّة في مصر وليبيا والمغرب وسوريا واليمن، ولا غرابة أن يغيب عن الندوة أنصار
السلفية السياسية. ولعل مصطلح (الوسطية) في كلمة الأمير نايف لا يعني سوى الامتثال
لنموذج السلفية التقليدية، التي تتمسك، بإصرار هادف، بالفصل بين شؤون الدين وشؤون
السياسة، وتلتزم بطاعة ولي الأمر وتحرّم الخروج عليه مطلقاً.
على الرغم من أن لا شيء لافتا في الدندنة حول السلفية، وكان
يمكن أن تمرّ، شأن فعاليات أخرى مثل الملتقى الثقافي السعودي في الرياض في نهاية
كانون الأول الماضي، لولا تغريدة كاتب صحافي وصف فيها ما جرى في بهو فندق الماريوت
الذي عقد فيه الملتقى بـ(خزي وعار)، إلا أن قصفاً من الطرف الآخر، الجناح السديري،
استوجب رد فعل من جناح الملك. وهنا يأتي أثر الحدث الثاني، أي إدخال قرار تأنيث
محال المستلزمات النسائية حيز التنفيد، الذي تمّ في أجواء عملية تأهيل إعلامي
واجتماعي لناحية تطبيق القرار قبل فترة وجيزة، وهذا يظهر من تصويب المفتي العام
الشيخ عبد العزيز آل الشيخ على القرار قبل موعد تطبيقه بأيام.
فقد خرق المفتي، التابو نفسه (المجاهرة بالنصيحة)، حين حذر في
خطبة الجمعة في جامع الإمام تركي بن عبد الله في العاصمة، الرياض، بتاريخ 30 كانون
الأول (ديسمبر) الماضي رجال الأعمال من توظيف النساء في محال بيع المستلزمات
النسائية، واعتبر ذلك (جرماً وخطأً كبيراً وعظيماً)، مشيراً إلى أنّهم إذا فعلوا
ذلك فهم (مخالفون للشرع، ومنخدعون بالدعايات المضللة)، وهم من يتحمّل أوزار ذلك،
وخاطب الجمهور (فلا تنخدعوا بهذه الدعاية المضللة مهما كسوها من أقوال، بل إنما هي
تساهل في المحرمات).
في سياق المعاضدة، استدرك الشيخ السلفي المتشدّد ناصر العمر
على صفحته في (تويتر) في 5 كانون الثاني على كلام المفتي، واعتبر قرار وزارة العمل
بتأنيث محال المستلزمات النسائية (تحديّاً للفتوى الشرعية لمفتي وعلماء المملكة)
ثم تساءل: (أفي دولتين نحن؟).
* دعوة للتخلي عن السلفية
هنا بدا واضحاً، أن ثمة مواجهة علنيّة تجري فصولها بين جناحين
في الحكم وتستوعب تيارات فكرية وسياسية واجتماعية. لذلك، بعد مرور اسبوع على ندوة
(السلفية منهج شرعي ومطلب وطني)، جاء الرد من فريق الملك عبد الله. وكتب زياد
الدريس، المندوب الدائم للسعودية لدى منظمة اليونسكو (باريس)، في صحيفة (الحياة)
اللندنية، لمالكها الأمير خالد بن سلطان، مقالة في 4 كانون الثاني الجاري بعنوان
(«السلفية»..هل هذا وقتها؟)، انتقد فيها رعاية الدولة للدعوة السلفية، أي الدعوة
إلى «تبنّي استراتيجية لنشر المنهج السلفي»، واعتبر وصف السلفية بأنها مطلب وطني
خاطئ، وقال (والصحيح أنها «مطب وطني») وفرّق بين ثلاث دوائر للدولة السعودية كبرى
وهي الدولة الإسلامية التي تحتضن قبلة المسلمين، ووسطى وهي دولة سنيّة تحمي مذهب
أهل السنة والجماعة، وصغرى وهي الدولة السلفيّة التي تتبنى منهج دعوة الشيخ محمد
بن عبد الوهاب. وطالب بأن تكون السعودية دولة إسلامية والتخلي عن الطابع السلفي
للدولة.
كان مقالاً صادماً، حين يوضع في سمت التجاذب الإيديولوجي على
المستويين الاقليمي والقومي، خصوصاً أنه يحتدم مع مشروع الأمير نايف الذي فوّض
لنفسه مهمة حماية السلفية من محاولات تخفيضها إلى مستوى منظومة عبادية، كبقية
المنظومات الأخرى في المجال الإسلامي، وليس منهجاً للدولة، بما قد يؤول إلى تشظيها.
لا ريب في أن مقالاً بجرعة زائدة من النقد والجرأة كالذي كتبه
الدريس تطلّب حملة ردود، في سياق المساجلة السياسية في ساحة العقيدة. مقلة الدريس
استدرجت ردوداً جمّة، لكن لم تغادر رد الفعل الحمائي بلغة مدقعة، تذكّر بفكرة
النضال ضد الذات من موقع الآخر، وليس العكس، فقد عجزت الردود عن أن تضاهي الجلبة
الاحتجاجية التي أحدثها الدريس.
ليس مقدّراً للسجال أن ينتهي، فهو يحقق غاية استهلاك الطاقة
الاحتجاجية الكامنة لدى القوى السياسية والاجتماعية في الداخل، لكنّه يعكس في
الوقت نفسه، المرونة الزائفة لدى صانع القرار لجهة القبول بمبدأ الحبو نحو تحوّلات
مخنوقة، لتقليل الأضرار (damage limitation).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) باحث في الفكر السياسي من السعودية
لطول الرابط: اضغط هنا
--

(ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ)
( | ~ {قرووب البصيرة الرسالية) .. (للأخبار الرسالية والمواضيع الهادفة} ~ | ) (ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ) |
|
أو
عبر (PickerQrCode)
|
|
|
|
* للإنضمام لصفحة
قروب البصيرة الرسالية على الفيس بوك لمتابعة جديد ما ننشره:
*
ليصلكم ما ننشره بالبريد الإلكتروني اشتركوا في (قروب البصيرة الرسالية):
http://groups.google.com/group/albaseera
http://groups.google.com/group/albaseera
ثم هذا الرابط التالي:
وتأكيد
الاشتراك منكم لتعذر الإضافة منا بعد تحديثات قوقل الأخيرة
ملحق ذا فائدة
(محدث):
* صفحة
آية الله المجاهد الشيخ نمر النمر (حفظه الله) بالفيس بوك:
www.facebook.com/Shaikh.Nemer
www.facebook.com/Shaikh.Nemer
* صفحة جامع الإمام الحسين (ع) بالعوامية بالفيس بوك:
*
لمشاهدة فيديو آية
الله النمر في
اليوتيوب :
www.youtube.com/profile?user=nwrass2009
www.youtube.com/profile?user=nwrass2009
* إصدار القبس
الرسالي لسماحة الشيخ نمر (يحوي 1902 محاضرة):
لا تنسونا من
صالح دعائكم
وإفادة الآخرين مما يصلكم منا
مع تحيات:
البصيرة الرسالية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق