بسم الله الرحمن الرحيم
في الثامن والعشرين من شهر صفر، تحل علينا ذكرى وفاة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله.
فتعظيماً للرسول الأكرم، وتخليداً لمناسبة وفاته نتقدم إليكم بأشجى التعازي وأسمى آيات الحزن، سائلين الله تعالى أن يوفقنا وإياكم للإقتداء بنبي الرحمة صلى الله عليه وآله، والسير على نهجه، والعمل بكلماته ووصاياه وإحياء سننه المباركة..
وتعظيماً لشعائر الله، نقدم إليكم حديثاً لسماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي حفظه الله بهذا المناسبة، نرجو أن تقربنا إلى الله تعالى، وأن تزيدنا معرفة وتمسكاً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مكتب المرجع الديني
آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي
قدوة المؤمنين

لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ليكون أشرف وأكمل وأسمى خليقته على هذه البسيطة، بل من أجل أن يستضيفه إلى دار الخلد والنعيم.. إلى الجنة.. كما سخر له كافة الكائنات والمخلوقات الأخرى في خدمته ومن أجله، حتى جعل الملائكة التي نزهت من كافة الفواحش والذنوب في خدمة هذا الإنسان، بل فوض تعالى الإنسان قيادة وخلافة الأرض ما لم يفوض أي من مخلوقاته ... (إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة) (البقرة، 30) .. لماذا؟ هل لان هذا الإنسان أضخم وأكبر حجماً وطولاً من هذه الجبال والكواكب والمعادن و...؟ كلا..
إن الله سبحانه فعل ذلك بعد ما زود الإنسان بنور العقل وقوة الإرادة، ومنحه قدرة الاختبار والانتخاب؛ إن شاء اختار سبيل الهدى، وان شاء اختار طريق الضلال .. (إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً) (الإنسان، 3).
لذا حينما يتجاوز هذا الإنسان بإرادته العقبة ويقتحمها ويتسامى، فإنه يستحق العظمة، ومن يباهي ربنا ملائكته به.. وما أدراك ما الملائكة؟
* الإنسان أسمى من الملائكة:
إنهم بزمام أيديهم إدارة حركة الرياح والشمس والأرض والسحاب بتوكيل وبقدرة الباري عز وجل، بالرغم من ذلك فإن الله يجل شأن عبده الإنسان ويفضله على ملائكته.
بلى.. إن ذلك العبد الذي ارتخت جوارحه في جوف الليل، وفي تلك الليلة الباردة التي سكنت فيها الأنفاس وهام ظلام الليل على أهله، وهو يرقد على فراشه الوثير، ثم تدغدغه ساعة اللقاء والوصل بمقام العزة والربوبية فينتزع نفسه قبل أذان الفجر من فراشه ليتوضأ، ثم ليستقبل القبلة مناجياً المولى القوي العزيز يطلب منه العون والقرب والكمال.. انه يركع ويسجد ويخشع قلبه خوفاً من غضب الله، ورجاءاً في ثوابه وجزيل آلاءه.. هذا الإنسان لا يحق للملائكة أن تشكو الله تفضيله عليها، وذلك لأن هذا الإنسان المؤمن قد استجمع كافة عوامل الضعف في وجوده المادي وجسده النحيف، إلا انه قوي بإرادته. فلهذا يقتحم كافة عقبات الضعف والهوان المادي بتوكله على الله القوي العزيز ليدخل في حصن الرب، ورياض الرحمة الربانية.
* سباق التكامل:
إن الملائكة لم تعان من عوامل الضعف والهوى، حتى تتسلق مدارج الكمال والرقي والقرب الإلهي خطوة.. خطوة، غير أن الإنسان يصارع بإرادته كل يوم بل كل لحظة كافة عوامل الضعف الموضوعة أمام مسيرته في هذه الحياة كيما يحرز على قصب السبق رجاءاً وطمعاً في رحمة الله اللا متناهية.
إذن؛ إن قصة مسيرة الإنسان على وجه هذا الكوكب الأرضي، هي قصة صراع الإرادة وسباق التكامل والرقي البشري.. ففي هذه المسيرة ينبغي وجود بعض القدوات والنماذج الطيبة التي تستدعي الاقتداء بها والوصول إلى سلالم الكمالات الإنسانية، وذلك لما تتمتع به هذه القدوات من صفات إنسانية عالية تستحق التأمل والاعتبار.
ومن هنا تتجلى إحدى جوانب مهام الأنبياء والرسل والأئمة المعصومين عليهم السلام كيما يكونوا قدوات واقعية وميدانية ونماذج متحركة وحية، وترجمان لفحوى التعاليم والقيم الإلهية أمام أنظار الناس.
* القدوة .. ضرورة:
إن هؤلاء الأنبياء العظام والقدوات المباركة عرفوا قدر حياتهم ووجودهم فتسابقوا صوب نعيم الباري عز وجل، فكانوا ينظرون إلى الحياة باعتبارها جسرا وطريقا للوصول إلى الجنة، بل كانوا يستشعرون الجنة في الدنيا، وكذلك عذاب النار وهم يعيشون حياة الدنيا.
من هنا يتساءل المرء ما الذي حذا بهؤلاء القدوات العظام إلى أن يقضوا كل لحظة من لحظات حياتهم في طاعة وذكر الله سواء في نهارهم أو ليلهم؟ لقد كان نهارهم مجالا لهداية الناس ووعظهم وإدارتهم، والدفاع عن حريم القيم الإلهية والوقوف أمام الأعداء، وليلهم كان فسحة طيبة لمراجعة الذات والنفس والتهجد لله سبحانه .. إنهم استشعروا لذيذ نعيم الجنة ومدارج الآخرة، فأصبحت حياتهم كلها أخروية.
لقد كانوا على يقين؛ إنما ثمن هذا الجسد وهذه الروح هو الجنة، لقد عرفوا عظمة الجنة وبيوتها المنيفة التي أعدت للمؤمنين والصالحين.. تلك البيوت التي يمكن لأبسط الناس إيماناً أن يقري ويستضيف جميع الخلائق في بيته الذي حباها الله جزءاً على عمله الصالح في الدنيا.
إن بيتاً واحداً من بيوت الجنة تحوي على بساتين خضراء وموائد مفروشة وجواري وغلمان ما لم يحصي عددهم إلا الله، فمن يرغب أن يطلق هذا النعيم الخالد في قبالة لذائد زائلة في الدنيا يتبعها نار جهنم؟.. نار جهنم وبيوتها الضيقة التي لا تتسع إلا على قدر مساحة أكوام من لحوم وعظام البشر المتراكمة، وهي تستغيث وتختنق من شدة العذاب!
لذا يفترض علينا أن نجعل من حياة كافة أنبياء الله والأئمة المعصومين عليهم السلام وخاصة نبينا الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) قدوة في حياتنا، ونجعل مسيرته خريطة متكاملة أمامنا ونسعى من أجل أن نحذو حذوه ونعمل بهداه، كما فعل الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام في إتباعه الكامل لحياة الرسول صلى الله عليه وآله فكان يتبعه كما يتبع الفصيل لأمه.
* النبي الأكرم خير قدوة:
إن هذا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله الذي جعله الباري أفضل خلقه وخاتم أنبيائه، واعز خلق من مخلوقاته حتى قال تعالى في حديثه القدسي (لولاك لما خلقت الأفلاك)[1].
نراه يتعب ويرهق نفسه في جوف الليل رجاءا في الثواب والتقرب إليه. فقد كان (صلى الله عليه وآله) له حبل يتعلق به حتى لا يقع من شدة التعب، وإذا جاع (صلى الله عليه وآله) يشد حجر المجاعة على بطنه، وهو مالك للمال ولكن ينفقه في سبيل الله.. هذا ناهيك عن عظيم خلقه وشدة حلمه وصبره على أذى قومه له.
حقا نتساءل: إذا كان الرسول العظيم يفعل هكذا مع جسده طاعة لله، فماذا سوف يكون حالي وحالك أنت أيها المؤمن؟
إن المؤمن الذي تشغله كل ليلة برامج التلفزيون والبث الفضائي، ثم يهوي بعدها إلى فراشه، حتى يتحول- حسب تعبير الأئمة عليهم السلام إلى (جيفه) فهذا حاله حال الغافلين.
كثيراً من الناس يشكون من الأحلام المزعجة التي تتعقبهم بالليل. فهذا يرى الشرطة تطارده، وذاك يحلم بالبيع والشراء والخسارة، وذاك يرى الدائنين يهجمون عليه ليخنقوه.. فالسبب لذلك يرجع إلى أن هؤلاء يعيشون على مدار اليوم هموم المعيشة والدنيا فقط.
لابد أن نجعل للقرآن وتلاوته والصلاة وذكر الله مساحة تتسع لها أوقاتنا التي تذهب كل يوم دون رجعة.. لابد أن نروح أنفسنا بتلاوة ذكر الله قبل أن ننام، ولابد أن نعيش الآخرة والموت كل يوم.. أن نزور المقابر ونترقب مصيرنا الذي سوف نؤوب إليه.. أليس من الأعمال المستحبة أن يعد ويحفر الإنسان قبره قبل موته ثم ينام فيه مستعداً لساعة الأجل الحاسمة؟
لقد كان الإمام زين العابدين ذلك الإمام الزاهد العابد كما يقول هو عليه السلام يدرس حياة الرسول (صلى الله عليه وآله)، بل يحفظ مغازيه (صلى الله عليه وآله) وسيرته. فإذا كانت حياة الرسول عامة هي جملة دروس لإمامنا السجاد عليه السلام، فكيف لا تكون منهجاً وخريطة عمل لنا جميعاً؟
لقد قرأت في كتاب بحار الأنوار رواية حول كيفية شرب الماء عند النبي (صلى الله عليه وآله) فلقد كان (صلى الله عليه وآله) يطبق ثلاثين أدباً لدى شربه للماء.. وما هذه الأمراض التي تصيب المعدة والكبد والكلية والاثني عشري و.. إلا بسبب عدم مراعاتنا لآداب الإسلام في الأكل والشرب والنوم و.. إن انحرافاتنا الحياتية تكمن في حدوث الفجوة والفاصلة بيننا وبين رسولنا الأكرم والأئمة المعصومين عليهم السلام فانقطعنا عن فيض نورهم وهداهم، كما ينطفأ المصباح عندما ينقطع التيار الكهربائي عنه.
* لماذا إلغاء دور القدوة؟
إن جملة من الناس عندما تسألهم لماذا لا تقتدوا بالرسول الأكرم والأئمة عليهم السلام يجيبك قائلا: لا يمكن لنا أن نكون مثلهم متناسين قوله تعالى: (قل إنّما أنا بشرٌ مثلكم) (الكهف/ 110).
ثم كيف لا يمكن لنا إتباعهم والاقتداء بسيرتهم وقد جعلهم الله لنا أسوة حسنة، وكيف يقول الإمام علي عليه السلام: (الا وان لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه)[2]؟
وإذا كان لنا عذر أو حجة (معصومية) هؤلاء الرسل والأئمة عليهم السلام فما بالنا بالصديقة زينب وسيدنا العباس وعلي الأكبر والقاسم بن الحسن، وكذلك أصحاب الرسول والأئمة عليهم السلام كأبي ذر والمقداد وسلمان وحبيب ابن مظاهر الأسدي.. وماذا نقول في علماء الدين العظام الذين ينتهجون سيرة الحق والتقوى؟ لماذا يصرّ البعض على إلغاء دور القدوة في الحياة؟! وفيما إذا رأينا قائداً حياً ينفع الأمة (قد لا نؤمن به شخصياً مثلا).. نضع أمامه شتى العراقيل ونتفرق عنه.. وقس على ذلك الشهداء الأبرار الذين ضحوا بأنفسهم الغالية في هذا الطريق المبارك.
* شروط الاقتداء:
انظروا إلى الطريقة الجميلة التي يتحدث عنها ربنا في سورة الأحزاب حيث يبدأ بذكر النبي (صلى الله عليه وآله) أولا ثم ينتهي بذكر المجاهدين والشهداء.. يقول ربنا: (لقَد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر وذكر الله كثيراً) (الأحزاب، 21).
أي إن هناك ثلاثة شروط للاقتداء بالرسول حسبما يضعها القرآن الكريم في هذه الآية المباركة:
الأول والثاني: أن نرجو الله واليوم الآخر ونعتقد بأنها حق وليست بكذب، وان هذه الدنيا ليست نهاية حياتنا ومصيرنا، بل هي بداية مسيرتنا إلى دار الخلد.
الثالث: ( وذكر الله كثيراً)؛ يعني أن لن نغفل عن ذكر الله سواء في السوق والتجارة أو في ساحة الحرب.. ويضرب القرآن مثلا في هذا الصدد فيقول: (ولمّا رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلاّ إيمانا وتسليما) (الأحزاب، 22) أي الإيمان بالله والتسليم للقيادة الربانية.
إن المؤمنين لا يلومون الرسول على شدة الوطيس وزحمة المشاكل، بل يسارعون إلى مساندة القيادة ودعمها. فالذي يريد إن يتقدم يجب أن يعطي ويستقيم. ثم يقول ربا: (من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا) (الأحزاب، 23).
فالرجل الذي يرزق الشهادة أو الذي يترقب وينتظر الشهادة هما على حد سواء... (ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إنّ الله كان غفوراً رحيما) (الأحزاب، 24).
موقع مكتب سماحة المرجع الديني
آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق